الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث التاسع: التوكل

- حقيقة التوكل وأهميته

التوكل،كما يقول ابن القيم: «نصف الدين، والنصف الثاني: الإنابة. فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة. ومنـزلته أوسع المنازل وأجمعها» [1] .

وهو «من أعم المقامات تعلقا بالأسماء الحسنى، فإن له تعلقا خاصا بعامة أسماء الأفعال وأسماء الصفات،... ولهذا فسره من فسره من الأئمة بأنه المعرفة بالله» [2] ، ويمثل حقيقة العبودية، فمن عزل نفسه عن مقام التوكل فقد عزلها عن حقيقة العبودية [3] .

وهو «مركب السائر الذي لا يتأتى له السير إلا به،... ومن لوازم الإيمان ومقتضيـاته» [4] ، «فمـن لا توكل له لا إيمان له،

قـال الله تعالى: ( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) (المائدة:23) » [5] ، «فجعل التوكل شرطا في الإيمان، فدل على انتفاء الإيمان عند انتفاء التوكل،...

وقال تعالى: ( وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) (آل عمران:122) ،

فذكر اسم [ ص: 108 ] الإيمان هاهنا دون سائر أسمائهم دليل على استدعاء الإيمان للتوكل، وإن قوة التوكل وضعفه بحسب قوة الإيمان وضعفه، فكلما قوي إيمان العبد كان توكله أقوى، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل» [6] .

وقد جمع الله في كتابه الكريم بين التوكل والإسلام،

فقال سبحانه: ( وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين ) (يونس:84) ،

وجمع بين التوكل والتقوى، فقال سبحانه: ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) (الطلاق:2-3) ؛

كما جمع بين التوكل والهداية،

فقال سبحانه لنبيه (: ( فتوكل على الله إنك على الحق المبين ) (النمل:79) [7] .

ولذا فقد عني ابن القيم بهذا المقام أشد عناية، حيث نجده:

أ- يورد نماذج من الآيات القرآنية الواردة في الحث على التوكل،

حيث يقول: «قال الله تعالى: ( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) (المائدة:23) ؛

وقال: ( وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) (إبراهيم:11) ؛

وقال: ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) (الطلاق:3) ؛

وقال عن أوليائه: ( ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ) (الممتحنة:4) ؛

وقال: لرسوله (: ( قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا ) (الملك:29) ؛ [ ص: 109 ] وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم : ( فتوكل على الله إنك على الحق المبين ) (النمل:79) ؛

وقال له: ( وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ) (النساء:81) ،

وقال له: ( وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده ) (الفرقان:58) ؛

وقال له: ( فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ) (آل عمران:159) ؛

وقال عن أنبيائه ورسله: ( وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ) (إبراهيم:12) ؛

وقال عن أصحاب نبيه: ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) (آل عمران:173) ؛

وقال: ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون ) (الأنفال:2) » [8] .

ب- ويورد جانبا من الأحاديث الصحيحة الواردة في الحث على التوكل، حيث يقول: «وفي الصحيحين في حديث السبعين ألفا الذين يدخلـون الجنة بغـير حسـاب ( هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتـوون، وعلى ربهم يتوكلون ) [9] ، وفي صحيـح البخـاري " عن ابن عباس، رضي الله عنهما ، أنه قال: « ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) [ ص: 110 ] قالها إبراهيم، عليه السلام ، حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: ( إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) " (آل عمران:173) [10] ؛ وفي الصحيحـين ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت وبك خاصمت؛ اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون ) [11] .

وفي الترمذي ( عن عمر، رضي الله عنه ، مرفوعا: لو أنكم تتوكلون على الله حـق توكـله لرزقـكم كمـا يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا ) [12] .

وفي السنن عن أنس، رضـي الله عنه، أنه قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قال -يعني إذا خرج من بيته- بسم الله، توكلت على الله ولا حول ولا [ ص: 111 ] قوة إلا بالله يقال له هديت ووقيت وكفيت فيقول الشيطان لشيطان آخر كيف بك برجل قد هدي وكفي ووقي )

ج- ويبين أن العبد لا يستكمل مقام التوكل إلا بثمانية أمور، هي:

الأول: المعرفة بالرب وصفاته من قدرته وكفايته وقيوميته وانتهاء الأمور إلى علمه وصدورها عن مشيئته وقدرته. وهذه المعرفة أول درجة يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل.

الثاني: إثبات الأسباب والمسببات والأخذ بالأسباب مع عدم الركون إليها وقطع علاقة القلب بها، فيكون حال بدنه قيامه بها، وحال قلبه قيامه بالله لا بها [13] .

الثالث: رسوخ القلب في مقام توحيد التوكل فإنه لا يستقيم توكل العبد حتى يصح له توحيده. بل حقيقة التوكل: توحيد القلب، فما دامت فيه علائق الشرك فتوكله معلول مدخول، وعلى قدر تجريد التوحيد تكون صحة التوكل. [ ص: 112 ]

الرابع: اعتمـاد القلب عـلى الله واستنـاده وسكونه إليه بحيث لا يبقى فيه اضطراب من تشويش الأسباب ولا سكون إليها، بل يخلع السكون إليها من قلبه ويلبسه السكون إلى مسببها. وعلامة هذا أنه لا يبالي بإقبالهـا وإدبارها، ولا يضطرب قلبـه ويخفـق عند إدبار ما يحب منها وإقبـال ما يكره، لأن اعتماده على الله وسكونه واستناده إليه قد حصنه من خوفها ورجائها.

الخامس: حسن الظن بالله عز وجل فعلى قدر حسن ظن العبد بربه ورجائه له يكون توكله عليه.

السادس: استسلام القلب له وانجذاب دواعيه كلها إليه وقطع منازعاته.

السابع: التفويض وهو روح التوكل ولبه وحقيقته، وهو إلقاء العبد أموره كلها إلى الله وإنـزالها به طلبا واختيارا، لا كرها واضطرارا.

الثامن: الرضا بالقدر وهو ثمرة التوكل وأعظم فوائده، فمن وكل أموره إلى الله ورضي بما يقضيه له فقد حقق التوكل [14] . [ ص: 113 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية