الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الثامن: الاستقامة

- مفهوم الاستقامة

الاستقامة كما يقول ابن القيم: «كلمة جامعة آخذة بمجامع الدين، وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصـدق والوفاء بالعهد، وتتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيات، فالاستقامة فيها: وقوعها لله وبالله وعلى أمر الله» [1] .

- أهمية الاستقامة وأقوال علماء السلف فيها

وللاستقامة أهمية كبيرة يدل عليها قول ابن القيم: «قال الله تعالى: ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ) (فصلت:30) ،

وقال: ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون ) (الأحقاف:13-14) ،

وقال لرسوله (: ( فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ) (هود:112)

فبين أن الاستقامة ضد الطغيان، وهو مجاوزة الحـدود في كل شيء. وقال تعالى: [ ص: 100 ] ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه ) (فصلت:6) ؛

وقال تعالى: ( وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه ) (الجن:16-17) ...

وفي صحيح مسلم ( عن سفيان بن عبد الله، رضي الله عنه ، قال: قلت: يا رسـول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحـدا غيرك. قال: قل آمنت بالله ثم استقم ) [2] ... قال بعض العارفين: «كن صاحب الاستقامة لا طالب الكرامة، فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يطالب بالاستقامة». وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية، قدس الله روحه، يقول: «أعظم الكرامة لزوم الاستقامة»...

وكما أن البدن إذا خلا عن الروح فهو ميت، فكذلك الحال إذا خلا عن الاستقامة فهو فاسد، وكما أن حياة الأحوال بها، فزيادة أعمال الزاهدين أيضا وربوها وزكاؤها بها، فلا زكاء للعمل ولا صحة للحال بدونها» [3] .

ويورد ابن القيم أقوال علماء السلف، رضي الله عنهم ورحمهم، في الاستقامة المذكورة في قوله تعالى: ( وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا ) (الجن:16) ؛

فيقول: " سئل صديق الأمـة وأعظمـها استقامة أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، عن الاستقامة؟، فقال: «أن لا تشرك بالله شيئا " ، يريد الاستقامة على محض التوحيد. [ ص: 101 ] " وقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه : الاستقامة: أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعالب. "

" وقال عثمان بن عفان، رضي الله عنه : استقاموا: أخلصوا العمل لله. "

" وقال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه ، وابن عباس، رضي الله عنهما : استقاموا: أدوا الفرائض. "

وقال الحسن: «استقاموا على أمر الله، فعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته».

وقال مجاهد [4] : «استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله».

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية، قدس الله روحه، يقول: «استقاموا على محبته وعبوديته، فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة» [5] .

- الطريق الموصل إلى الاستقامة

ويحدد، رحمه الله، الطريق الموصل إلى الاستقامة، فيقول: «قاعدة في ذكر طريق قريب يوصل إلى الاستقامة في الأحوال والأقوال والأعمال، وهي شيئان:

أحدهما: حراسة الخواطر وحفظها، والحذر من إهمالها والاسترسال معها، فإن أصل الفساد كله من قبلها يجيء، لأنها هي بذر الشيطان والنفس [ ص: 102 ] في أرض القلب، فإن تمكن بذرها تعاهدها الشيطان بسقيه مرة بعد أخرى حتى تصير إرادات، ثم يسقيها بسقيه حتى تكون عزائم، ثم لا يزال بها حتى تثمر الأعمال. ولا ريب أن دفع الخواطر أيسر من دفع الإرادات والعزائم، فيجد العبد نفسه عاجزا أو كالعاجز عن دفعها بعد أن صارت إرادة جازمة، وهو المفرط إذا لم يدفعها وهي خاطر ضعيف، كمن تهاون بشرارة من نار وقعت في حطب يابس فلما تمكنت منه عجز عن إطفائها.

فإن قلت: فما الطريق إلى حفظ الخواطر؟، قلت: أسباب عدة:

أحدها: العلم الجازم باطلاع الرب تعالى ونظره إلى قلبك وعلمه بتفاصيل خواطرك.

الثاني: حياؤك منه.

الثالث: إجـلالك له أن يرى مثل تلك الخواطر في بيته الذي خلق لمعرفته ومحبته.

الرابع: خوفك منه أن تسقط من عينه بتلك الخواطر.

الخامس: إيثارك له أن تساكن قلبك غير محبته.

السادس: خشيتك أن تتولد تلك الخواطر ويستعر شرارها، فتأكل ما في القلب من الإيمان ومحبة الله، فتذهب به جملة وأنت لا تشعر.

السابع: أن تعلم أن تلك الخواطر بمنـزلة الحب الذي يلقى للطائر ليصاد به، فاعـلم أن كل خاطر منها فهو حبة في فخ منصوب لصيدك وأنت لا تشعر. [ ص: 103 ] الثامن: أن تعلم أن تلك الخواطر الرديئة لا تجتمع هي وخواطر الإيمان ودواعي المحبة والإنابة أصلا، بل هي ضدها من كل وجه، وما اجتمعا في قلب إلا وغلب أحدهما صاحبه وأخرجه واستوطن مكانه، فما الظن بقلب غلبت خـواطر النفـس والشيطـان فيه خـواطر الإيمان والمحبة والمعرفة فأخرجتها واستوطنت مكانها؟، لكن لو كان للقلب حياة لشعر بألم ذلك وأحس بمصابه.

التاسع: أن تعلم أن تلك الخواطر بحر من بحور الخيال لا سـاحل له، فإذا دخل القلب في غمراته غرق فيه وتاه في ظلماته، فيطلب الخلاص منه فلا يجد إليه سبيلا، فقلب تمـلكه الخواطر بعيد من الفلاح معذب مشغول بما لا يفيد.

العاشر: أن تعلم أن تلك الخواطر هي وادي الحمقى وأماني الجاهلين، فلا تثمر لصاحبها إلا الندامة والخزي، وإذا غلبت على القلب أورثته الوساوس وعزلته عن سلطانها، وأفسدت عليه رعيته، وألقته في الأسر الطويل، كما أن هذا معلوم في الخواطر النفسانية فهكذا الخواطر الإيمانية الرحمانية هي أصل الخير كله، فإن أرض القلب إذا بذر فيها خواطر الإيمان والخشية والمحبة والإنابة والتصديق بالوعد ورجاء الثواب، وسقيت مرة بعد مرة، وتعاهدها صاحبها بحفظها ومراعاتها والقيام عليها، أثمرت له كل فعل جميل، وملأت قلبه من الخيرات، واستعملت جوارحه في الطاعات، واستقر بها الملك في سلطانه، واستقامت له رعيته... [ ص: 104 ]

الثـاني [6] : صـدق التأهب للقـاء الله عز وجـل، وهـذا من أنفع ما للعبد وأبلغه في حصـول استقامته، فإن من استعـد للقـاء الله انقطع قلبه عن الدنيـا ومطـالبها، وخمـدت في نفسـه نيران الشهوات، وأخبت قلبه إلى ربه تعالى، وعكفت همته على الله وعلى محبته وإيثار مرضاته» [7] .

ويقول أيضا في موضع آخر: «استقامة القلب بشيئين:

أحدهما: أن تكون محبة الله تعالى تتقدم عنده على جميع المحاب، فإذا تعارض حب الله تعالى وحب غيره، سبق حب الله تعالى حب ما سواه، فرتب على ذلك مقتضاه، وما أسهل هذا بالدعوى وما أصعبه بالفعل، فعند الامتحان يكرم المرء أو يهـان. وما أكثر ما يقدم العبد ما يحبه هو ويهواه أو يحبه كبيره وأميره وشيخه وأهله على ما يحبه الله تعالى. فهذا لم تتقدم محبة الله تعالى في قلبه جميع المحاب، ولا كانت هي الملكة المؤمرة عليها، ولا ينال شيئا منها إلا بنكد وتنغيص، جزاء له على إيثاره هواه وهوى من يعظمه من الخلق أو يحبه على محبة الله تعالى...

الأمر الثاني الذي يستقيم به القلب: تعظيم الأمر والنهي، وهو ناشئ عن تعظيم الآمر الناهي، فإن الله تعالى ذم من لا يعظمه ولا يعظم أمره [ ص: 105 ] ونهيه، قال سبحانه وتعالى: ( ما لكم لا ترجون لله وقارا ) (نوح:13) ،

قالوا في تفسيرها: ما لكم لا تخافون لله تعالى عظمة [8] .

وما أحسن ما قال شيخ الإسـلام في تعظيم الأمر والنهي، وهو: «أن لا يعارضا بترخص جاف، ولا يعارضا بتشديد غال، ولا يحملا على علة توهن الانقياد».

ومعنى كلامه: أن أول مراتب تعظيم الحـق عز وجل: تعظيم أمره ونـهيه، وذلك لأن المؤمن يعـرف ربه عـز وجـل برسـالته التي أرسل بـها رسـول الله صلى الله عليه وسلم إلى كافة النـاس، ومقتضاها الانقياد لأمره ونهيه، وإنما يكون ذلك بتعظيم أمر الله عز وجل واتباعه وتعظيم نهيه واجتنابه، فيكون تعظيم المؤمن لأمر الله تعالى ونهيه دالا على تعظيمه لصاحب الأمر والنهي، ويكون بحسب هذا التعظيم من الأبرار المشهود لهم بالإيمان والتصديق وصحة العقيدة والبراءة من النفاق الأكبر، فإن الرجل قد يتعاطى فعل الأمر لنظر الخلق وطلب المنـزلة والجاه عندهم، ويتقي المناهي خشية سقوطه من أعينهم وخشية العقـوبات الدنيوية من الحدود التي رتبها الشارع على المناهي. فهذا ليس فعله وتركه صادرا عن تعظيم الأمر والنهي، ولا عن تعظيم الآمر الناهي. [ ص: 106 ] فعلامة التعظيم للأوامر: رعاية أوقاتـها وحدودها، والتفتيش على أركانها وواجباتها وكمالها، والحرص على تحسينها وفعلها في أوقاتها، والمسارعة إليها عند وجوبها، والحزن والكآبة والأسف عند فوت حق من حقوقها، كما يحزن على فوت الجماعة، ويعلم أنه لو تقبلت منه صلاته منفردا، فإنه قد فاته سبعة وعشرون ضعفا. ولو أن رجلا يعاني البيع والشراء يفوته في صفقة واحدة في بلده من غير سفر ولا مشقة سبعة وعشرون دينارا، لأكل يديه ندما وأسفا، فكيف وكل ضعف مما تضاعف به صلاة الجماعة خير من ألف وألف ألف وما شاء الله تعالى، فإذا فوت العبد عليه هذا الربح خسر قطعا» [9] . [ ص: 107 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية