الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الثالث عشر: المحبة

- أهمية منـزلة (المحبة) وقيمتها

المحبة في نظر ابن القيم «هي المنـزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى علمها شمر السابقون، وعليها تفاني المحبون، وبروح نسيمها تروح العابدون، فهي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون، وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، وهي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال، التي متى خلت منها فهي كالجسـد الذي لا روح فيه، تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدا واصليها، وتبوؤهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها» [1] .

«ولو بطلت مسألة المحبة لبطلت جميع مقامات الإيمان والإحسـان، ولتعطلت منازل السير إلى الله، فإنها روح كل مقام ومنـزلة وعمل، فإذا خلا منها فهو ميت لا روح فيه. ونسبتها إلى الأعمال كنسبة الإخلاص إليها، بل هي حقيقة الإخلاص، بل هي نفس الإسلام، فإنه الاستسلام بالذل [ ص: 145 ] والحب والطاعة لله، فمن لا محبة له لا إسلام له ألبتة..، بل هي حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، فإن «الإله» هو الذي يألهه العباد حبا وذلا، وخوفا ورجاء، وتعظيما وطاعة له، بمعنى «مألوه»، وهو الذي تألهه القلوب، أي تحبه وتذل له» [2] .

ويضيف ابن القيم إلى ما سبق فيقول: «أعظم أنواع المحبة: محبة الله وحده ومحبة ما أحب، وهذه المحبة هي أصل السعادة ورأسها التي لا ينجو أحد من العذاب إلا بها،... ومدار القرآن على الأمر بتلك المحبة ولوازمها» [3] ، «ومدار كتب الله تعالى المنـزلة من أولها إلى آخرها على الأمر بتلك المحبة ولوازمها، والنهـي عن محبة ما يضـادها وملازمتها... ولا يجد حلاوة الإيمان، بل لا يذوق طعمه إلا من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، كما في الصحيحين من حديث أنس، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان -وفي لفظ: لا يجد طعم الإيمان إلا من كان فيه ثلاث - من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله تعالى منه كما يكره أن يلقى في النار» [4] . وفي الصحيحين أيضا عنه أنه [ ص: 146 ] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين [5] » [6] ، «وفي صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: «يا رسول الله، والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال: لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك. قال: والذي بعثك بالحق لأنت أحب إلي من نفسي. قال: الآن يا عمر» [7] ، فإذا كان هذا شأن محبة عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم ووجوب تقديمها على محبة نفس الإنسان وولده ووالده والناس أجمعين، فما الظن بمحبة مرسله سبحانه وتعالى، ووجوب تقديمها على محبة ما سواه؟» [8] .

- أنواع المحبة

يقسم ابن القيم المحبة إلى قسمين رئيسين:

- محبة نافعة، وهي أصل التوحيد والإيمان.

- ومحبة ضارة، وهي أصل الشرك.

ويدرج تحت كل قسم من هذين القسمين ثلاثة أنواع من المحبة، فيكون المجموع ستة أنواع عليها مدار محاب الخلق. [ ص: 147 ] فنجده يقول: «المحبة النافعة ثلاثة أنواع: محبة الله، ومحبة في الله، ومحبة ما يعين على طاعة الله تعالى واجتناب معصيته.

والمحبة الضارة ثلاثة أنواع: المحبة مع الله، ومحبة ما يبغضه الله تعالى، ومحبة ما تقطع محبته عن محبة الله تعالى أو تنقصها.

فهذه ستة أنواع عليها مدار محاب الخلق. فمحبة الله عز وجل أصل المحاب المحمودة، وأصل الإيمان والتوحيد، والنوعان الآخران تبع لها.

والمحبة مع الله أصـل الشرك والمحـاب المذمومة، والنوعان الآخران تبع لها» [9] .

- لوازم المحبة وعلاماتها

محبة الله تعالى ليست مجرد مقولة تنال بالادعاء، بل هي من أجل مقامات السالكين إليه سبحانه، لها لوازم وعلاقات تدل على أنها محبة صادقة ومقبولة عند الله تعالى.

ومن هذه اللوازم والعلامات، التي ذكرها ابن القيم، ما يلي:

1- توحيـد الله وإفراده بجميـع أنواع العبادة. وفي هذا يقول، رحمه الله: «المحبة الصادقة تقتضي توحيد المحبوب، وأن لا يشرك بينه وبين غيره في محبته. وإذا كان المحبوب من الخلق يأنف ويغار أن يشرك معه محبة غيره في [ ص: 148 ] محبته، ويمقته لذلك، ويبعده ولا يحظيه بقربه، ويعده كاذبا في دعوى محبته، مع أنه ليس أهلا لصرف كل قوة المحبـة إليه. فكيف بالحبيب الأعلى الذي لا تنبغي المحبة إلا له وحده، وكل محبة لغيره فهي عذاب على صاحبها ووبال، ولهذا لا يغفر الله سبحانه أن يشرك به في هذه المحبة، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء» [10] ، «وأصل الشرك بالله: الإشراك في المحبة،

كما قال تعالى: ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ) (البقرة:165) ،

فأخبر سبحانه أن من الناس من يشرك به ندا يحبه كما يحب الله، وأخبر أن الذين آمنوا أشد حبا لله من أصحاب الأنداد لأندادهم... والمقصود: أن حقيقة العبودية لا تحصل مع الإشراك بالله في المحبة» [11] .

ويقول: «أصل المحبة المحمودة التي أمر الله تعالى بها وخلق خلقه لأجلها هي محبته وحده لا شريك له، المتضمنة لعبادته دون عبادة ما سواه. فإن العبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل، ولا يصلح ذلك إلا لله عز وجل وحده... وأصل العبادة وتمامها وكمالها هو المحبة وإفراد الرب سبحانه بها، فلا يشرك العبد به فيها غيره» [12] . [ ص: 149 ] ويقول أيضا: «وأصل دعوة جميع الرسل، عليهم السلام، من أولهم إلى آخرهم إنما هي عبادة الله وحده لا شريك له، المتضمنة لكمال حبه وكمال الخضوع والذل له، والإجلال والتعظيم، ولوازم ذلك من الطاعة والتقوى» [13] .

2- موافقة الله في اتباع ما يأمر به واجتناب ما ينهى عنه. وفي هذا يقول، رحمه الله: «إن موافقة المحبوب من موجبات المحبة وثمراتها، وليست نفس المحبة، بل المحبة تستدعي الموافقة، وكلما كانت المحبة أقوى كانت الموافقة أتم،

قال تعالى: ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) (آل عمران:31) ؛

قال الحسن: «قال قوم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم : إنا نحب ربنا فأنـزل الله تعالى هذه الآية...»، وقال الجنيد: «ادعى قوم محبة الله فأنـزل الله آية المحبـة وهـي:

( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) (آل عمران:31) ،

يعني أن متابعة الرسول هي موافقة حبيبكم، فإنه المبلغ عنه ما يحبه وما يكره، فمتابعته موافقـة الله في فعل ما يحب وترك ما يكره... وإنما كانت موافقة المحبوب دليلا على محبته؛ لأن من أحب حبيبا فلابد أن يحب ما يحبه ويبغض ما يبغضه، وإلا لم يكن محبا له محبة صادقة، بل إن تخلف ذلك عنـه لم يكن محبا له، وإنمـا يكون محبا لمراده ومشيئتـه أحبه محبوبه أم كرهه، ومحبوبه عنده وسيلة إلى ذلك المراد»

[14] . [ ص: 150 ]

3- محبة القرآن الكريم -كلام الله- والالتذاذ بسماعه. وفي هذا يقول، رحمه الله، عن محبة العبد السالك لربه محبة تشغل قلبه وفكره: «هذه المحبة هي التي تنور الوجه وتشرح الصدر وتحيـي القلب، وكذلك محبة كلام الله فإنها من علامة محبة الله، وإذا أردت أن تعلم ما عندك وعند غيرك من محبة الله فانظر محبة القرآن من قلبك، والتذاذك بسماعه أعظم من التذاذ أصحاب الملاهي والغناء المطرب بسماعهم، فإن من المعلوم أن من أحب محبوبا كان كلامه وحديثه أحب شيء إليه، كما قيل:

إن كنت تـزعم حبي فلم هجرت كتابي

أما تأملت ما فيه من لذيذ خطابي

وقال عثمان بن عفان، رضي الله عنه: «لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله، وكيف يشبع المحب من كلام محبوبه وهو غاية مطلوبه؟» [15] .

- الأسباب الجالبة للمحبة

يرى ابن القيـم أن الأسباب الجالبة للمحبة النافعـة المطلوبة والموجبة لها عشرة أسباب هي:

«أحدها: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به، كتدبر الكتاب الذي يحفظه العبد ويشرحه ليتفهم مراد صاحبه منه.

الثاني: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، فإنها توصله إلى درجة المحبوبية بعد المحبة. [ ص: 151 ] الثالث: دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال، فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من الذكر.

الرابع: إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى، والتسنم إلى محابه وإن صعب المرتقى.

الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته، ومشاهدتها ومعرفتها، وتقلبه في رياض هذه المعرفة ومباديها، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا محالة...

السادس: مشاهدة بره وإحسانه وآلائه ونعمه الباطنة والظاهرة، فإنها داعية إلى محبته.

السابع: انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى...

الثامن: الخلوة به وقت النـزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب والتـأدب بأدب العبودية بين يديه، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.

التاسع: مجالسـة المحبين الصـادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقي أطايب الثمر...

العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل» [16] . [ ص: 152 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية