تقديم
الحمد لله، الذي جعل شرعة الإسلام، عقيدة وعملا، فكرا وفعلا، إيمانا وسلوكا، حيث السلوك يعتبر مرآة الإيمان وبرهان صدقه.
والصلاة والسلام على نبي الرحمة، أنموذج الاقتداء والتأسي، الذي كان سلوكه، ( خلقه القرآن ) ، الذي اعتبر مغايرة السلوك لمقتضيات المعتقد من مؤشرات وعلامات النفاق.
وبعد:
فهـذا «كتاب الأمة» الرابع والثلاثون بعد المائة: «قيم السلوك مع الله عند ابن قيم الجـوزية»، الجزء الثاني، للأستاذ الدكتور مفرح ابن سليمان القوسي، في سلسلة «كتاب الأمة»، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة منها في العمل على معاودة إخراج الأمة المسلمة، وبناء خيريتها، وتربيتها على منهج الوسطية والاعتدال، من خلال الالتزام بقيم الكتاب والسنة، وإبراز دور قيم الوحي في تشكيل السلوك [ ص: 5 ] وانتشال المسـلم المعاصر من وهدة التخلف والتراجع الحضاري، وإعادة بناء سلوكه في ضوء معطيات معرفة الوحي، وتخليصه من معاناته وأزماته وتقديمه كأنموذج إنساني عالمي يثير الاقتداء ويحمل رسالة الرحمة للعالمين.
فالسلوك والاستقامة: ( قل آمنت بالله فاستقم ) (أخرجه مسلم) تعتبر مـرآة العقيـدة والإيمان -كما أسـلفنا- ذلك أن قيـم الدين إنما شرعت وتنـزلت لتعبيد الناس لله وبناء الدنيا، وفق منهج الله، وتحقيق إنسانية الإنسان وتوفير كرامته وتنظيم علاقاته بغيره، فمن كان سلوكه وعمله يخالف عقيدته فكأنما يوبخ نفسه.
ويبقى السؤال الكبير والمعادلة الصعبة: كيف نستطيع ردم الفجوة بين قيم الإسلام وواقع المسلمين ونتحقق بالقناعة الكافية؟ إن الإسلام إنما انتشر وانتصر بسـلوك النمـاذج المؤمنة، في شتى مجالات الحياة، التي قدمت للعالم، ولا تزال، أنمـاطا بشرية جديدة، تتجسـد فيها القيم السـلوكية المتأتية من الكتاب والسنـة، الأمر الـذي يؤكـد أن الإسلام عقيدة وعمل قبل أن يكون أو لا يكون فلسفة نظرية ورؤى خيالية طوباوية، ومعارف باردة لا علاقة لها بالسلوك والفاعلية وبناء الإنسان. [ ص: 6 ]
لقد تحدثنا كثيرا، ولا نزال، في مـؤلفاتنا ومؤتمراتنا وندواتنا ونوادينا عن الفصام الرعيب بين العقيدة والسلوك، بين قيم الإسلام وواقع المسلمـين؛ وتوقفنا عند حـدود الشكوى؛ وكلما تمضي الأيام يبقى الحصاد هشيما، فلا نعمل أكثر من إعادة إنتاج الشكوى لكن بصور وأساليب قد تكون جديدة لكنها جميعا لا تقدم إلا إجـابات عامة، لا تسمن ولا تغني من جوع، دون أن نسعى لتقديـم أية بحوث أو دراسات جادة تساهم بتغيير ما في نفوسنا ليتغير ما بنا، ونقدم إجـابات مقنعة: لماذا صـرنا إلى ما نحن فيه؟ وكيف يمكننا الخروج من هذا الواقع؟ وما هي الوسائل المختبرة التي تشكل أدوات الخروج من النفق المظـلم، الذي طـال أمده حتى نكاد نألفه وتتشكل ذهنيتنا في مناخه؟
من خلال هذه الحال، التي لا نحسد عليها، ندرك أهمية وضرورة استدعاء البحوث والدراسات التي تتمحور حول كيفية بناء القيم السلوكية، وتقدم منهج البناء، وتكشف عن علوم طريق الوصول إليها، وتبين مدارج السالكين وروافع الكمال والاكتمال.
وقد يأتي في مقدمة من أدرك هذا الرباط، الذي يشكل تغييبه مكمن الإصابة، الإمام ابن القيم، رحمه الله، الذي كان له القدح المعلى في ذلك؛ فلقد أفرد لهذه الإشكالية الكبيرة بحوثا ومؤلفات تتوازى مع [ ص: 7 ] جهده المبذول في فقه الشريعة وأصول الأحكام؛ ولعل في هذا الجزء الثاني، الذي يتكامل مع الكتاب الأول، محاولة جادة لإبراز دور القيم السلوكية في تصويب حياة الناس ومعالجة الخلل، بحيث يمكن اعتبار ذلك لونا من التجديد في إطار السلوك، وجهدا مقدورا في العمل والعودة بالأمة إلى الينابيع الأولى، في الكتاب والسنة، ونفي البدع والمحدثات، واستئصال نوابت السوء، لتستأنف الأمة بخيريتها إلحاق الرحمة بالعالمين.
ولله الأمر من قبل ومن بعد. [ ص: 8 ]