الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      المبحث الخامس: تعلم العلم الشرعي [1]

      تعلم العلم الشرعي، والتفقه في أمور الدين الإسلامي، والبحث عن الدليل في مصادر التشريع الإسلامي المتفق عليها أمر ضروري للسالك في نظر ابن القيم، فهو يقوده إلى الله عز وجل على كل حال.

      يقول رحمه الله: «العلم إن لم يصحب السالك من أول قدم يضعه في الطريق إلى آخر قدم ينتهي إليه فسلوكه على غير طريق، وهو مقطوع عليه طريق الوصول، مسدود عليه سبل الهدى والفلاح، مغلقة عنه أبوابها. وهذا إجماع من الشيوخ العارفين، ولم ينه عن العلم إلا قطاع الطريق منهم ونواب إبليس وشرطه» [2] .

      ويقول أيضا: «إن كل حال وذوق ووجد وشهود لا يشرق عليه نور العلم المؤيد بالدليل فهو من عبث النفـس وحظوظها، فلو قدر أن المتكلم [ ص: 37 ] إنما تكلم بلسان العلم المجرد، فلا ريب أن ما كشفه العلم الصحيح المؤيد بالحجة أنفع من حال من يخالف العلم والعلم يخالفه.

      وليس من الانصاف رد العلم الصحيح بمجرد الذوق والحال، وهذا أصل الضلالة، ومنه دخل الداخل على كثير من السالكين في تحكيم أذواقهم ومواجيدهم على العلم؛ فكانت فتنة في الأرض وفساد كبير. وكم قد ضل وأضل محكم الحال على العلم، بل الواجب تحكيم العلم على الحال ورد الحال إليه، فما زكاه شاهد العلم فهو المقبول، وما جرحه شاهد العلم فهو المردود. وهذه وصية أرباب الاستقامة من مشايخ الطريق، رضي الله عنهم، كلهم يوصون بذلك، ويخبرون أن كل ذوق ووجد لا يقوم عليه شاهدان اثنان من العلم فهو باطل» [3] .

      «وأما الكلمات التي تروى عن بعضهم [4] من التـزهيد في العلم والاستغناء عنه، كقول من قال: «نحن نأخذ علمنا من الحي الذي لا يموت، وأنتم تأخذونه من حي يموت»، وقول الآخر -وقد قيل له: ألا ترحل حتى تسمع من عبد الرزاق [5] ؟-: «ما يصنع بالسماع من عبد الرزاق من يسمع [ ص: 38 ] من الخلاق؟»، وقول الآخر: «العلم حجاب بين القلب وبين الله عز وجل»، وقول الآخر: «إذا رأيت الصوفي يشتغل بـ «أخبرنا» و «حدثنا» فاغسل يدك منه»، وقول الآخر: «لنا علم الحرف، ولكم علم الورق»، ونحو هذا من الكلمـات التي أحسـن أقـوال قائلها: أن يكون جاهلا يعذر بجهله، أو شاطحا معترفا بشطحه، وإلا فلولا عبد الرزاق وأمثاله، ولولا «أخبرنا» و «حدثنا» لما وصل إلى هذا وأمثاله شيء من الإسلام.

      ومن أحالك على غير «أخبرنا» و «حدثنا» فقد أحالك إما على خيال صوفي أو قياس فلسفي أو رأي نفسي، فليس بعد القرآن و «أخبرنا» و «حدثنا» إلا شبهات المتكلمين وآراء المنحرفين وخيالات المتصوفين وقياس المتفلسفين، ومن فارق الدليل ضل عن سواء السبيل، ولا دليل إلى الله والجنة سوى الكتاب والسنة، وكل طريق لم يصحبها دليل القرآن والسنة فهي من طريق الجحيم والشيطان الرجيم.

      والعلم: ما قام عليه الدليل، والنافع منه: ما جاء به الرسول. والعلم خير من الحال، والعلم حاكم والحال محكوم عليه، والعلم هاد والحال تابع...، والحال سيف إن لم يصحبه العلم فهو مخراق في يد لاعب، والحال مركب لا يجارى، فإن لم يصحبه علم ألقى صاحبه في المهالك والمتالف، والحال كالمال يؤتاه البر والفاجر، فإن لم يصحبه نور العلم كان وبالا على صاحبه.

      والحال بلا علم كالسـلطان الذي لا يزعه عن سطوته وازع، والحال بلا عمل كالنار التي لا سائس لها، نفع الحال لا يتعدى صاحبه، ونفع العلم كالغيث يقع على الظراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر... [ ص: 39 ] والعلم تركة الأنبياء وتراثهم، وأهل عصبتهم ووراثهم، وهو حياة القلوب ونور البصائر وشفاء الصدور ورياض العقول ولذة الأرواح وأنس المستوحشين ودليل المتحيرين، وهو الميزان الذي به توزن الأقوال والأعمال والأحوال، وهو الحاكم المفرق بين الشك واليقين، والغي والرشاد، والهدى والضلال.

      به يعرف الله ويعبد، ويذكر ويوحد، ويحمد ويمجد، وبه اهتدى السالكون، ومن طريقه وصل إليه الواصلون، ومن بابه دخل عليه القاصدون، به تعرف الشرائع والأحكام، ويتميز الحلال من الحرام، وبه توصل الأرحام وتعرف مراضي الحبيب، وبمعرفتها ومتابعتها يوصل إليه من قريب.

      وهو إمام والعمل مأموم، وهو قائد والعمل تابع، وهو الصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والأنيس في الوحشة، والكاشف عن الشبهة...، مذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وطلبه قربة، وبذله صدقة، ومدارسته تعدل بالصيام والقيام، والحاجة إليه أعظم منها إلى الشراب والطعام.

      قال الإمام أحمد، رضي الله عنه: «الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب، لأن الرجل يحتـاج إلى الطعـام والشراب في اليوم مرة أو مرتين، وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه» [6] . وروينا عن الشافعي، رضي الله تعالى عنه، أنه قال: «طلب العلم أفضل من صلاة النافلة»، ونص على ذلك أبو حنيفة، رضي الله عنه. [ ص: 40 ] وقال ابن وهب [7] : «كنت بين يدي مالك، رضي الله عنه، فوضعت ألواحي وقمت أصلي، فقال: ما الذي قمت إليه بأفضل مما قمت عنه» ذكره ابن عبد البر وغيره...

      والعلم حجة الله في أرضه، ونوره بين عباده، وقائدهم ودليلهم إلى جنته، ويكفي في شرفه: أن فضل أهله على العباد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وأن الملائكة لتضع لهم أجنحتها وتظلهم بها، وأن العالم يستغفر له من في السموات ومن في الأرض، حتى الحيتان في البحر، وحتى النمل في جحرها، وأن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير[8] » [9] .

      ويستشهد بأقوال بعض علماء السلف في ضرورة العلم الشرعي، فيقول: «قال معاذ بن جبل: تعلموا العلم، فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبل أهل الجنة، وهو الأنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والزين عند الأخلاء، يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة، وأئمة تقتص آثارهم، ويقتدى بأفعالهم، وينتهى إلى رأيهم. ترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، يستغفر لهم كل [ ص: 41 ] رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه، لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظلم. يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار، والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، التفكر فيه يعدل الصيام، ومدارسته تعدل القيام، به توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال من الحرام، وهو إمام العمل، والعمل تابع له، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء»، رواه الطبراني وابن عبد البر وغيرهما» [10] ، «وقد ذكر الإمام أحمد في كتاب «الزهد» من كلام لقمان أنه قال لابنه: «يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض بوابل القطر»[11] .

      ويقول: «كان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: «من فارق الدليل ضل السبيل، ولا دليل إلا بما جاء به الرسول». وقال الحسن: «العالم على غير علم كالسالك على غـير طريق، والعـامل على غـير علم ما يفسده أكثر مما يصلحه» [12] .

      ويقول أيضا: «قال أبو عمرو بن نجيد [13] : «كل حال لا يكون عن نتيجة علم فإن ضرره على صاحبه أكثر من نفعه» [14] . [ ص: 42 ] ويعقد ابن القيم في كتابه «مفتاح دار السعادة» فصلا مطولا في فضل العلم وشرفه وبيان عموم الحاجة إليه وتوقف كمال العبد ونجاته في معاشه ومعاده عليه [15] ، ومما قاله فيه قوله: «إن العلم حياة ونور، والجهل موت وظلمة، والشر كله سببه عدم الحياة، والنور والخير كله سببه النور والحياة، فإن النور يكشف عن حقائق الأشياء ويبين مراتبها» [16] ، «وحاجة العباد إلى العلم كحاجتهم إلى المطر، بل أعظم، وإذا فقدوا العلم فهم بمنـزلة الأرض التي فقدت الغيث» [17] ، «وفقد العلم فيه فقد لحياة القلب والروح، فلا غنى للعبد عنه طرفة عين» [18] ، «والعـلم من الإيمان بمنـزلة الروح من الجسد، ولا تقوم شجرة الإيمان إلا على ساق العلم والمعرفة» [19] ، «وما قامت السموات والأرض وما بينهما إلا بالعلم، ولا بعثت الرسل وأنـزلت الكتب إلا بالعلم، ولا عبد الله وحده وحمد وأثني عليه ومجد إلا بالعلم، ولا عرف الحلال من الحرام إلا بالعلم، ولا عرف فضل الإسلام على غيره إلا بالعلم» [20] .

      وقوله أيضا: «العلم إمام العمل وقائد له، والعمل تابع له ومؤتم به، فكل عمل لا يكون خلف العلم مقتديا به فهو غير نافع لصاحبه بل مضرة [ ص: 43 ] عـليه، كمـا قـال بعض السـلف: «من عبـد الله بغـير عـلم كان ما يفسد أكثر مما يصلح». والأعمال إنما تتفاوت في القبول والرد بحسب موافقتها للعلم ومخالفتها له، فالعمل الموافق للعلم هو المقبول، والمخالف له هو المردود. فالعلم هو الميزان وهو المحك،

      قال تعالى: ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور ) (الملك:2) ؛

      قـال الفضيـل بن عيـاض: (هـو أخـلص العـلم وأصوبه، قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟، قال: «إن العمل إذا كان خالصا ولم يك صوابا لم يقبل، وإذا كان صـوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا، فالخـالص أن يكون لله، والصـواب أن يكون على السنة»،

      وقد قال تعالى: ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) (الكهف:110) ؛

      فهذا هو العمل المقبول الذي لا يقبل الله من الأعمال سواه، وهو أن يكون موافقا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مرادا به وجه الله، ولا يتمكن العامل من الإتيان بعمل يجمع هذين الوصفين إلا بالعلم، فإنه إن لم يعلم بما جاء به الرسـول لم يمكنه قصده، وإن لم يعرف معبوده لم يمكنه إرادته وحده. فلولا العلم لما كان عمله مقبولا، فالعلم هو الدليل على الإخلاص وهو الدليل على المتابعة،

      وقد قال الله تعالى: ( إنما يتقبل الله من المتقين ) (المائدة:27) ؛

      وأحسـن ما قيل في تفسير الآية: «أنه إنما يتقبل الله عمل من اتقاه في ذلك العمل، وتقواه فيه أن يكون لوجهه على [ ص: 44 ] موافقة أمره. وهذا إنما يحصل بالعلم، وإذا كانت هذه منـزلة العلم وموقعه علم أنه أشرف شيء وأجله وأفضله» [21] .

      وقوله كذلك: «ولا ريب أن العلم بالله وبأسمائه وصفاته وأفعاله أجل العلوم وأفضلها وأشرفها، فهو أصلها كلها،... وهو أيضا أصل علم العبد بسعادته وكماله ومصالح دنياه وآخرته. والجهل به مستلزم للجهل بنفسه ومصالحها وكمالها وما تـزكو وتفلح به، فالعلم به سعادة العبد، والجهل به أصل شقاوته» [22] .

      ومن فوائد العـلم الشرعي للسـالك في نظر ابن القيم -بالإضافة إلى ما تقدم-:

      1- أنه يهذبه ويهيئه لسلوك طريق العبودية لله عز وجل [23] .

      2- ويهديه إلى الغاية المقصودة له من سيره، فكم من سالك لا يعرف الغاية من سيره [24] .

      3- ويصحح همته، فأعلى الهمم همة اتصلت بالحق سبحانه، وهي همة الرسل وأتباعهم [25] . [ ص: 45 ]

      التالي السابق


      الخدمات العلمية