الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      معلومات الكتاب

      قيم السلوك مع الله عند ابن قيم الجوزية [الجزء الثاني]

      الأستاذ الدكتور / مفرح بن سليمان القوسي

      المبحث الثالث: الالتـزام بالكتاب والسنة والتحاكم إليهما

      لا بد للسالك من الالتـزام بما جاء في الكتاب والسنة ليصح سيره إلى الله تعالى، وقد أكد ابن القيم ذلك في العديد من كتبه، وعني به أشد عناية، ومن ذلك أنه:

      أ- أورد بعض النصوص الشرعية الدالة على وجوب اتباع الكتاب والسنة، وبين وجه دلالة كل منها على هذا الوجوب، فنراه يقول:

      «قال تعالى: ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) (الأحزاب:36) ؛

      فدل هذا على أنه إذا ثبت لله ولرسوله في كل مسـألة من المسائل حكم طلبي أو خبري، فإنه ليس لأحد أن يتخير لنفسه غير ذلك فيـذهب إليه، وأن ذلك ليس لمؤمن ولا مؤمنة أصلا فدل على أن ذلك مناف للإيمان...

      وقال تعالى: ( قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين ) (النور:54) ؛

      فأخبر سبحانه أن الهداية في طاعة الرسول لا في غيرها، فإنه معلق بالشرط فينتفي بانتفائه،... فالآية نص على انتفاء الهداية عند عدم طاعته... [ ص: 22 ] وقال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ) (النساء:59) ،

      فأمر سبحانه بطاعته وطاعة رسوله، وافتتح الآية بندائهم باسم الإيمان المشعر بأن المطلوب منهم من موجبات الاسم الذي نودوا وخوطبوا به...، ففي ذلك إشارة إلى أنكم إن كنتم مؤمنين، فالإيمان يقتضي منكم كذا وكذا، فإنه من موجبات الإيمان وتمامه.

      وتحت قوله سبحانه: ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) سر لطيف، وهو: دلالته على أن ما يأمر به رسوله تجب طاعته فيه، وإن لم يكن مأمورا به بعينه في القرآن، فتجب طاعة الرسول مفردة ومقرونة. فلا يتوهم متوهم أن ما يأمر به الرسـول إن لم يكن في القرآن لا تجب طاعته فيه، كما ( قـال النبي صلى الله عليه وسلم : يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله ما وجدنا فيه من شيء اتبعناه، ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه ) [1] ... [ ص: 23 ] ثم قال تعالى: ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) (النساء:59) ،

      وهذا دليل قاطع على أنه يجب رد موارد النـزاع في كل ما تنازع فيه الناس من الدين كله إلى الله ورسوله لا إلى أحد غير الله ورسوله، فمن أحال الرد على غيرهما فقد ضاد أمر الله، ومن دعا عند النـزاع إلى تحكيم غير الله ورسوله فقد دعا بدعوى الجاهلية، فلا يدخل العبد في الإيمان حتى يرد كل ما تنازع فيه المتنازعون إلى الله ورسوله،

      ولهذا قال الله تعالـى: ( إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) ،

      وهذا مما ذكرناه آنفا شرط ينتفي المشروط بانتفائه، فدل على أن من حكم غير الله ورسوله في موارد مقتضى النـزاع كان خارجا من مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر،... وقد اتفق السلف والخلف على أن الرد إلى الله هو: الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو: الرد إليه في حياته، والرد إلى سنته بعد وفاته.

      ثم قال تعالى: ( ذلك خير وأحسن تأويلا ) ،

      أي: هذا الذي أمرتكم به من طاعتي وطاعة رسولي وأولي الأمر، ورد ما تنازعتم فيه إلي وإلى رسولي خير لكم في معاشكم ومعادكم، وهو سعادتكم في الدارين، فهو خير لكم وأحسن عاقبة. فدل هذا على أن طاعة الله ورسوله، وتحكيم الله ورسوله هو سبب السعادة عاجلا وآجلا» [2] . [ ص: 24 ] ب- وأورد أقوال بعض علماء الزهد والسلوك في الالتـزام بالكتاب والسنة، فنراه يقول: «قال سيد الطائفة وشيخهم الجنيد بن محمد، رحمه الله: «من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة». وقال: «مذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة».

      وقال أبو حفص، رحمه الله: «من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة، ولم يتهم خواطره فلا يعد في ديوان الرجال».

      وقال أبو سليمان الداراني، رحمه الله: «ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياما، فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب، والسنة»...

      وقال أبو يزيد [3] : «لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات إلى أن يرتفع في الهواء، فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وأداء الشريعة» [4] .

      ولذا يقـول ابن القيم: «وأهـل الاستقامة منهم سلكوا على الجادة، ولم يلتفتوا إلى شيء من الخواطر والهواجس والإلهامات حتى يقوم عليها شاهدان: الكتاب والسنة» [5] . [ ص: 25 ] ج- وبين أن رأس الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم : «كمال التسليم له، والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن يحمله السالك معارضة خيال باطل يسميه معقولا، أو يحمله شبهة أو شكا، أو يقدم عليه آراء الرجال وزبالات أذهانهم، فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما وحد المرسل سبحانه وتعالى بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل» [6] .

      وفصل في كيفية الانقياد لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والاستسلام والإذعان له، حيث ذكر أن ذلك يكون بثلاثة أمور هي:

      «الأول: ألا يعارض شيئا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء من المعارضات الأربعة السارية في العالم المسماة بالمعقول، والقياس، والذوق، والسياسة.

      فالتعويل على المعقول هو منهج المتكلمين الذين يعارضون نصوص الشرع بمعقولاتهم الفاسدة، ويقولون: إذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل وعزلنا النقل.

      والأخذ بالقياس هو منهج المنحرفين المنتسبين إلى الفقه الذين يقولون: إذا تعارض القياس والنص قدمنا القياس على النص.

      والاعتماد على الذوق هو منهج المنحرفين من الصوفية الذين إذا تعارض عندهم الذوق والأمر قدموا الذوق ولم يعبأوا بالأمر. [ ص: 26 ] والاعتداد بالسياسة هو منهج المنحرفين الجائرين من ولاة الأمر الذين إذا تعـارضت عندهم الشريعة والسياسة قدموا السياسة ولم يلتفتوا إلى حكم الشريعة.

      الثاني: ألا يتهـم دليـلا من أدلة الشـرع، بحيث يظنه فاسد الدلالة أو قاصرها، أو أن غيره كان أولى منه. ومتى عرض له شيء من ذلك فليتهم فهمه، وليعلم أن الآفة منه والبلية فيه. وهذا هو واقع الأمر، فإنه ما اتهم أحد دليلا للدين إلا وكان المتهم هو الفاسد الذهن، المأفون في عقله وذهنه، فالآفة في الذهن العليل، لا في نفس الدليل. وإذا رأى السالك من أدلة الدين ما يشكل عليه أمره وينبو عنه فهمه، فليعلم أن تحته كنـزا من كنوز العلم، وأنه لم يؤت مفتاحه بعد لكلال ذهنه.

      الثالث: ألا يجد إلى خـلاف النص سبيلا ألبتة، لا بباطنه ولا بلسانه ولا بفعله ولا بحاله، بل إذا أحس بشيء من الخلاف فهو كخلاف المقدم على كبيرة كالزنا وشرب الخمر وقتل النفس، بل هذا الخلاف أعظم عند الله من ذلك، وهو الذي خافه الأئمة على أنفسهم» [7] .

      د- وعزا إلى الإمام الشافعي، رحمه الله، إجماع السلف على وجوب الالتـزام بنصوص الكتاب والسنة، حيث يقول: «حكى الشافعي رضي الله عنه إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد. ولا يستريب أحد من أئمة [ ص: 27 ] الإسلام في صحة ما قال الشافعي رضي الله تعالى عنه. فإن الحجة الواجب اتباعها على الخلق كافة إنما هـو قول المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وأما أقـوال غـيره فغـايتها أن تكون سائغة الاتباع، فضلا عن أن تعارض بها النصوص وتقدم عليها، عياذا بالله من الخذلان» [8] .

      هـ- وأكد أن اتباع ما جاء في الكتاب والسنة هو الحق وصراط الله المستقيم المذكور في سورة الفاتحة، حيث يقول في معرض حديثه عن اشتمال سورة الفاتحة الرد على جميع المبطلين من أهل الملل والنحل: «الصراط المستقيم متضمن معرفة الحق وإيثاره وتقديمه على غيره ومحبته والانقياد له والدعوة إليه وجهاد أعدائه بحسب الإمكان. والحق هو: ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وما جاء به علما وعملا في باب صفات الرب سبحانه وأسمائه وتوحيده وأمره ونهيه ووعده ووعيده وفي حقائق الإيمان التي هي منازل السائرين إلى الله تعالى، وكل ذلك مسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دون آراء الرجال وأوضاعهم وأفكارهم واصطلاحـاتهم. فكل علم أو عمل أو حقيقة أو حال أو مقام خرج من مشكاة نبوته وعليه السكة المحمدية فهو من الصراط المستقيم، وما لم يكن كذلك فهو من صراط أهل الغضب والضلال» [9] .

      و- وبين حكم من استغنى عن الكتاب والسنة، فقال: «ومن ظن أنه يستغني عما جاء به الرسول بما يلقى في قلبه من الخواطر والهواجس، فهو من [ ص: 28 ] أعظـم الناس كفرا، وكذلك من ظـن أنه يكتفي بهـذا تارة وبهذا تارة، فما يلقى في القلوب لا عبرة به ولا التفات إليه إن لم يعرض على ما جاء به الرسول ويشهد له بالموافقة، وإلا فهو من إلقاء النفس والشيطان» [10] .

      ز- وشدد في النكير على من أعرض عن الكتاب والسنة وأقبل على الآراء والأذواق والأهواء. ومما قاله بهذا الشأن قوله عن هذه الطائفة: «واعجبا لها كيف جعلت غذاءها من هذه الآراء التي لا تسمن ولا تغني من جوع ولم تقبل الاغتذاء بكلام رب العالمين ونصـوص حديث نبيه المرفوع، أم كيف اهتدت في ظلم الآراء إلى التمييز بين الخطأ والصواب، وخفي عليها ذلك في مطالع الأنوار من السنة والكتاب؟ واعجبا كيف ميزت بين صحيح الآراء وسقيمها، ومقبولها ومردودها، وراجحها ومرجوحها، وأقرت على أنفسها بالعجز عن تلقي الهدى والعلم من كلام من كلامه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الكفيل بإيضاح الحق مع غاية البيان، وكلام من أوتي جوامع الكلم، واستولى كلامه على الأقصى من البيان؟...

      أفيظن المعرض عن كتاب ربه وسنة رسوله أن ينجو من ربه بآراء الرجال؟، أو يتخلص من بأس الله بكثرة البحوث والجدال، وضروب الأقيسة وتنوع الأشكال؟، أو بالإشارات والشطحات وأنواع الخيال؟... ولن ينال الإنسان المطالب العالية ويخلص من الخسران المبين إلا بالإقبال على القرآن وتفهمه وتدبره واستخراج كنوزه وإثارة دفائنه، وصرف العناية إليه، [ ص: 29 ] والعكوف بالهمة عليه، فإنه الكفيل بمصالح العباد في المعاش والمعاد، والموصل لهم إلى سبيل الرشاد، فالحقيقة والطريقة، والأذواق والمواجيد الصحيحة كلها لا تقتبس إلا من مشكاته ولا تستثمر إلا من شجراته» [11] .

      ح- وحذر السالك من التحاكم إلى الأذواق والمواجيد، فقال: «الذوق والحال والوجد منشأ ضلال من ضل من المفسدين لطريق القوم الصحيحة، حيث جعلوه حاكما، فتحاكموا إليه فيما يسوغ ويمتنع، وفيما هو صحيح وفاسد، وجعلوه محكا للحق والباطل، فنبذوا لذلك موجب العلم والنصوص، وحكموا فيها الأذواق والأحوال والمواجيد، فعظم الأمر وتفاقم الفساد والشر، وطمست معالم الإيمان والسلوك المستقيم، وانعكس السير، كان إلى الله فصيروه إلى النفوس، فالناس المحجوبون عن أذواقهم يعبدون الله، وهؤلاء يعبدون نفوسهم...

      ثم إنه وقع من تحكيم الذوق من الفساد ما لا يعلمه إلا الله، فإن الأذواق مختلفة في أنفسها، كثيرة الألوان متباينة أعظم التباين، فكل طائفة لهم أذواق وأحوال ومواجيد بحسب معتقداتهم وسلوكهم...

      وهذا سيد أهل الأذواق والمواجيد والكشوف والأحوال من هذه الأمة المحدث المكاشف عمر، رضي الله عنه ، لا يلتفت إلى ذوقه ووجده ومخاطباته في شيء من أمور الدين حتى ينشد عنه الرجال والنساء والأعراب، فإذا أخبروه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يلتفت إلى ذوقه، ولا إلى وجده وخطابه، [ ص: 30 ] بل يقول: " لو لم نسمع بهذا لقضينا بغيره " ، ويقول: " أيها الناس: رجل أخطأ وامرأة أصابت " ، فهذا فعل الناصح لنفسه وللأمة، رضي الله عنه ، ليس كفعل من غش نفسه والدين والأمة.

      وإذا وقع النـزاع في حكم فعل من الأفعال أو حال من الأحوال أو ذوق من الأذواق، هل هو صحيح أو فاسد؟ وحق أو باطل؟ وجب الرجوع فيه إلى الحجة المقبولة عند الله وعند عباده المؤمنين، وهي: وحيه الذي تتلقى أحكام النوازل والأحوال والواردات منه، وتعرض عليه وتوزن به، فما زكاه منها وقبله ورجحه وصححه فهو المقبول، وما أبطله ورده فهو الباطل المردود. ومن لم يبن عـلى هذا الأصل علمه وسلوكه وعمله فليس على شيء من الدين، وإنما معه خدع وغرور:

      ( كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب ) (النور:39) .

      وإذا أشكل على الناظر أو السـالك حـكم شيء، هـل هو الإباحة أو التحريم؟ فلينظر إلى مفسدته وثمرته وغايته، فإن كان مشتملا على مفسدة راجحة ظاهرة، فإنه يستحيل على الشارع الأمر به أو إباحته، بل العلم بتحريمه من شرعه قطعي» [12] . [ ص: 31 ]

      التالي السابق


      الخدمات العلمية