الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      المبحث الثاني: السنة النبوية

      السنة في اصطلاح العلماء هي: ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم غير القرآن من قول أو فعل أو تقرير في غير الأمور الطبعية [1] .

      والسنة المطهرة هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي وأصل أساس من أصول الاستدلال والاستنباط، وتتبوأ المرتبة الثانية عند ابن القيم -وسائر علماء السلف- بعد كتاب الله عز وجل من حيث الاستمداد منها والاحتجاج بها. وقد أشتهر عنه، رحمه الله، إجلاله لها وشدة تمسكه واهتمامه بها، وقد حافظ عليها محافظته على القرآن الكريم، ورأى استقلالها بتشريع الأحكام ووجوب العمل بها، وإن كانت من حيث الاعتبار وقوة الاستدلال متأخرة عن الكتاب.

      فقد عقد في كتابه (أعلام الموقعين) فصلا بعنوان (الرسول أول من بلغ عن الله) ، قال فيه: «أول من قام بهذا المنصب الشريف -التبليغ عن الله سبحانه- سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين عبد الله ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده، فكان يفتي عن الله بوحيه المبين، وكان كما قال له أحكم الحاكمين: ( قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من [ ص: 65 ] المتكلفين ) (ص:86) ؛

      فكانت فتاويه ( جوامع الأحكام ومشتملة على فصل الخطاب، وهي في وجوب اتباعها وتحكيمها والتحاكم إليها ثانية الكتاب، وليس لأحد من المسلمين العدول عنها ما وجد إليها سبيلا» [2] .

      ويقول في موضع آخر: «قال الله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ) (النساء:59) ؛

      فأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله، وأعاد الفعل إعلاما بأن طاعة الرسول تجب استقلالا من غير عرض ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقا، سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه، فإنه أوتي الكتاب ومثله معه،... وقد أجمع الناس على أن الرد إلى الله سبحانه هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرد إليه نفسه في حياته وإلى سنته بعد وفاته» [3] .

      ويقول أيضا: «السنة مع الكتاب على ثلاثة أوجه:

      أحدها: أن تكون موافقة له من كل وجه، فيكون توارد القرآن والسنة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وتضافرها. [ ص: 66 ] الثاني: أن تكون بيانا لما أريد بالقرآن وتفسيرا له.

      الثالث: أن تكون موجبة لحكـم سكت القرآن عن إيجابه، أو محرمة لما سكت عن تحريمه، ولا تخرج عن هذه الأقسام.

      فلا تعارض القرآن بوجه ما، فما كان منها زائدا على القرآن فهو تشريع مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم تجب طاعته فيه ولا تحل معصيته. وليس هذا تقديما لها على كتاب الله، بل امتثال لما أمر الله به من طاعة رسوله.

      ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطاع في هذا القسم لم يكن لطاعته معنى، وسقطت طاعته المختصة به، وإنه إذا لم تجب طاعتـه إلا فيما وافق القرآن لا فيما زاد عليه لم يكن له طاعة خاصة تختص به،

      وقد قال الله تعالى: ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ) (النساء:80) ...؛

      فسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل في صـدورنا وأعظـم وأفرض علينا أن لا نقبلها إذا كانت زائدة على ما في القـرآن، بل على الرأس والعينيـن،... ولو ساغ لنا رد كل سنة زائـدة على نص القرآن، لبطلت سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سنة دل عليها القرآن» [4] .

      ولذا كان الاستمداد من السنة المطهرة والاستنباط منها -ومن الكتاب قبل ذلك- سمة بارزة من سمات منهج ابن القيم في سائر كتبه، كما أنه، رحمه الله، لم يذكر منـزلة من منازل السائرين إلى الله إلا وبين أدلتها [ ص: 67 ] وشواهدها وتفصيلاتها من السنة ما أمكنه ذلك.

      ومن ذلك - على سبيل المثال لا الحصر- ما يلي:

      1- أنه في حديثه عن مقام (التوبة) استدل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم لبيان ضرورة التوبة ولزومها للعبد السالك، حيث يقول: «وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه ( قال: يا أيها الناس توبوا إلى الله فوالله إني لأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة ) [5] ، وكان أصحابه يعدون له في المجلس الواحد قبل أن يقوم ( رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور، مائة مرة ) [6] ، وما صلى صلاة قط بعد إذ أنـزلت عليه: ( إذا جاء نصر الله والفتح ) (النصر:1) ، إلى آخرها إلا قال فيها ( سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي ) [7] ،... فصلوات الله وسلامه عليه أعلم الخلق بالله وحقوقه وعظمته وما يستحقه جلاله من العبودية، وأعرفهم بالعبودية وحقوقها [ ص: 68 ] وأقومهم بها» [8] .

      2- ويستـدل ( بقـول النبـي صلى الله عليه وسلم : ... لن ينجو أحد منكم بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ) [9] ، في معرض حديثه عن ضرورة إياس العبد السالك من النجاة من النار يوم القيامة بعمله، واعتقاده أن النجاة إنما هي برحمة الله وفضله، باعتبار ذلك أحد أمور ثلاثة لا يستقيم للعبد الرجوع إلى الله سبحانه والإنابة إليه إلا بها [10] .

      3- ويستدل ( بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ما لي وللدنيا إنما أنا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها ) [11] لإثبات أن إيقان العبد السالك بأن الدنيا ظل زائل وخيال زائر مما يصحح له زهده في الدنيا وإقباله على الآخرة. ويقرر أن مما يصحح للعبد هذا الزهد أيضا إيقانه بأن وراء هذه الدنيا دارا أعظم منها قدرا وأجل خطرا؛ وهي دار البقاء، وأن نسبتها إليها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع ) [12] . [ ص: 69 ] 4- ويستمـد من ( قوله: من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة ) [13] -يستمد منه- حكمه بأن الرجاء لا بد أن يقارنه ثلاثة أمور هي: محبة ما يرجوه، وخوفه من فواته، وسعيه في تحصيله قدر الإمكان. وأما الرجاء الذي لا يقارنه شيء من ذلك، فهو في الحقيقة من باب الأماني. والرجاء شيء والأماني شيء آخر، فكل راج خائف. والسائر على الطريق إذا خاف أسرع السير مخافة الفوات [14] .

      5- ويستنبط مفهوم «المراقبة» وحقيقتها من ( قوله صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل ، عليه السلام ، عن الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) [15] .

      6- ويستشهد بالعديد من الأحاديث النبوية للدلالة على ضرورة «الإخلاص»، منها: الحديث القدسي ( من عمل عملا أشرك فيه غيري فهو للذي أشرك به وأنا منه بريء ) [16] ، ( وقوله صلى الله عليه وسلم : إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم ) . [17] 7- ويستدل على وجوب الاستقامة بثلاثة أحاديث نبوية، حيث يقول ما نصه: ...وفي صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه ( أنه قال: قلت يا رسول الله: قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك ) [ ص: 70 ] حديث أبي أسامة غيرك، ( قال: قل آمنت بالله ثم استقم ) [18] ، وفيه ( عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ) [19] . والمطلوب من العبد الاستقامة، وهي السداد، فإن لم يقدر عليها فالمقاربة، فإن نـزل عنها فالتفريط والإضاعة، كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه ، ( عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ) [20] ، فجمع في هذا الحديث مقامات الدين كلها، فأمر بالاستقامة وهي: السداد والإصابة في النيات والأقوال والأعمال. وأخبر في حديث ثوبان أنهم لا يطيقونها، فنقلهم إلى المقاربة، وهي أن يقربوا من الاستقامة بحسب طاقتهم، كالذي يرمي إلى الغرض، فإن لم يصبه يقـاربه. ومع هذا فأخـرهم أن الاستقامة والمقاربة لا تنجي يوم القيامة، فلا يركن أحد إلى عمله ولا يعجب به ولا يرى أن نجاته به، بل إنما نجاته برحمة الله وعفوه وفضله» [21] . [ ص: 71 ] 8- ويستنبـط -في حـديثه عن الفرق بين التوكل والعجز- من سنة النبي صلى الله عليه وسلم الفعلية حكمه، رحمه الله، بضرورة اعتماد القلب على الله وحده مع فعل الأسباب الجالبة للمنافع والدافعة للمضار، فنجده يقول: «والفرق بين التوكل والعجز: أن التوكل عمل القلب وعبوديته، اعتمادا على الله وثقة به والتجاء إليه وتفويضا إليه ورضا بما يقضيه له لعلمه بكفايته سبحانه وحسن اختياره لعبده إذا فوض إليه مع قيامه بالأسباب المأمور بها واجتهاده في تحصيلها، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم المتوكلين، وكان يلبس لامته ودرعه، بل ظاهر يوم أحد بين درعين، واختفى في الغار ثلاثا، فكان متوكلا في السبب لا على السبب. وأما العجز: فهو تعطيل الأمرين أو أحدهما، فإما أن يعطل السبب عجزا منه ويزعم أن ذلك توكل؛ ولعمر الله إنه لعجز وتفريط، وإما أن يقوم بالسبب ناظرا إليه معتمدا عليه غافلا عن المسبب معرضا عنه، وإن خطر بباله لم يثبت معه ذلك الخاطر ولم يعلق قلبه به تعلقا تاما، بحيث يكون قلبه مع الله وبدنه مع السبب، فهذا توكله عجز وعجزه توكل» [22] .

      9- ويستنبط من السنة النبوية بعض آداب الصبر على المصيبة، حيث يستنبط من حديث أنس بن مالك، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أتى على امرأة تبكـي على صبي لها فقال لها: اتقي الله واصبري، فقالت: وما تبالي بمصيبتي، فلما ذهب قيل لها إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذها مثل المـوت، فأتت بابه فلـم تجـد على بابه بوابين، فقالت: يا رسول الله [ ص: 72 ] لم أعرفك فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى ) [23] [24] ، يستنبط من هذا الحديث أدب «الصبر والاحتساب عند أول حلول المصيبة أو البلاء بالعبد»، ويقول: «فإذا كان آخر الأمر الصبر؛ والعبد غير محمود، فما أحسن به أن يستقبل الأمر في أوله بما يستدبره الأحمق في آخره. وقد قال بعض العقلاء: «من لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم» [25] .

      كما يستنبط من حديث أم سلمة، رضي الله عنها ، أنها قالت: ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها، إلا أخلف الله له خيرا منها، قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة، أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟، ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ) [26] ، يستنبط منه أدب «الاسترجاع، وهو قول الـمبتلى: إنا لله وإنا إليه راجعون»، ويقول معلقا على الحديث: «فانظر عاقبة الصبر والاسترجاع ومتابعة الرسول والرضا عن [ ص: 73 ] الله إلى ما آلت إليه وأنالت أم سلمة نكاح أكرم الخلق على الله» [27] .

      10- وفي معرض حديثه عن حقائق «الصدق» يستنبط من ( قوله صلى الله عليه وسلم : الصدق طمأنينة، والكذب ريبة ) [28] أحد علامات الصدق، وهي: حصول الطمأنينة للقلب والسكون للنفس [29] .

      11- ويستدل على فضل الذكر والذاكرين بالعديد من الأحاديث النبوية، منها: قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بأن جبريل، عليه السلام ، أخبره بأن الله سبحانه يباهي بأهل الذكر ملائكته [30] .

      12- ويستدل على وجوب الالتـزام بالسنة والأخذ بها والتحاكم إليها ( بقول النبي صلى الله عليه وسلم : «يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله ما وجدنا فيه من شيء اتبعناه، إلا أني أوتيت الكتاب ومثله معه ) [31] .

      13- ويستنبط من ( قوله صلى الله عليه وسلم وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ) [32] ، حكمه بأن من الآثار السيئة للذنوب والمعاصي والأضرار الناشئة منها: حرمان المذنب والعاصي الرزق. [ ص: 74 ]

      التالي السابق


      الخدمات العلمية