الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      الخاتمة

      أحمد الله عز وجل وأشكره وأثني عليه الخير كله على ما يسر وأعان سبحانه على إتمام هذا البحث. وفي ختامه أبين - بإيجاز فيما يلي - أبرز النتائج العلمية التي توصلت إليها فيه:

      1- إن السلوك مع الله عند ابن القيم هو: سلوك الطريق إلى الله عز وجل، وذلك بتهذيب النفوس وتـزكيتها وتطهير القلوب ومعالجة أمراضها، لتسعد بسيرها إلى صحبة الرفيق الأعلى ومعية من تحبه، فإن المرء مع من أحب.

      وإن المراد بقيم السلوك مع الله : الصفات السلوكية الذاتية الخيرة التي يقتضيها الشرع والعقل والفطرة في صلة العبد بربه، وعبادته إياه، وسلوك الطريق إليه سبحانه.

      2- إن ترتيب منازل السير إلى الله ليس باعتبار أن السالك يقطع المنـزلة ويفارقها وينتقـل منها إلى الثانية بعدها كمنازل السير الحسي، وإنما هـذا الترتيب ترتيب المشروط المتوقف على شرطه المصاحب له، فبعض المنـازل متوقف على بعض ومستصحب لبعضها، ومنها ما يندرج فيها جميع المنازل. [ ص: 121 ] 3- إن التوبة مبـدأ مقامات السالكين، وأول مراحل الطريق إلى الله، بل هي المدخل المفضي إلى ذلك الطريق، والقرين المتنقل في مدارجه من البداية إلى النهاية، وهي رجوع عما كان مذموما في الشرع إلى ما هو محمود فيه، ويدخل في مسماها الإسلام والإيمان والإحسان.

      4- إن التوبة لها مبدأ ومنتهى، فمبدؤها: الرجوع إلى الله بسلوك صراطه المستقيم الذي نصبه لعباده موصلا إلى رضوانه. ومنتهاها: الرجوع إلى الله في المعاد، وسلوك صراطه الذي نصبه موصلا إلى جنته.

      5- إن النصح في التوبة يتضمن ثلاثة أمور:

      الأول: تعميم جميع الذنوب واستغراقها بها.

      الثاني: إجماع العزم والصدق بكليته عليها.

      الثالث: تخليصها من الشوائب والعلل القادحة في إخلاصها.

      6- إن الإنابة: الرجوع إلى الله ومحبته، وانصراف دواعي القلب وجواذبه إليه، وذكره بالإجلال والتعظيم، وعكوف الجوارح على طاعته بالإخلاص له والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم .

      7- وتنقسم إلى قسمين:

      الأول: إنابة لربوبيته سبحانه، وهي إنابة المخلوقات كلها، يشترك فيها المؤمن والكافر، والبر والفاجر. [ ص: 122 ] الثاني: إنابة لإلهيته سبحانه إنابة عبودية ومحبة، وهي إنابة أوليائه. وتتضمن أربعة أمور لا يستحق السالك اسم «المنيب» إلا بها، وهي: محبته سبحانه، والخضوع له، والإقبال عليه، والإعراض عما سواه.

      8- إن المنيبين إلى الله على ثلاث درجات:

      أ- فمنهم المنيب إلى الله بالرجوع إليه من المخالفات والمعاصي. وهذه الإنابة مصدرها الوعيد، والحامل عليها العلم والخشية والحذر.

      ب- ومنهم المنيب إليه بالدخول في أنواع العبادات والقربات. وهذه الإنابة مصدرها الرجاء ومطالعة الوعد والثواب ومحبة الكرامة من الله.

      ج- ومنهم المنيب إليه بالتضرع والدعاء، والافتقار إليه، والرغبة فيه، وسؤال الحاجات كلها منه. ومصدر هذه الإنابة شهود الفضل والمنة والغنى والكرم والقدرة.

      وإن أعلى أنواع الإنابات وأفضلها: إنابة الروح لخالقها سبحانه.

      9- إن الخوف من أجل منازل الطريق وأنفعها للقلب، وهو فرض على كل أحد. وإنه لعامة المؤمنين، والخشية – وهي الخوف المقرون بمعرفة – للعلماء العارفين، والهيبة للمحبين، والإجلال للمقربين.

      10- إنه على قدر العلم والمعرفة بالله، وبحسب القرب منه والمنـزلة عنده يكون الخوف والخشية منه سبحانه. [ ص: 123 ] 11- إن الخـوف شـرط في تحقق الإيمـان ولازم من لوازمه، وإنه لا يصلح إلا لله وحده، وينشأ من ثلاثة أمور:

      الأول: معرفة السالك بالجناية وقبحها.

      الثاني: تصديقه الوعيد، وأن الله رتب على المعصية قبحها.

      الثالث: أنه لا يعـلم لعله يمنع من التوبة ويحال بينه وبينها إذا ارتكب الذنب.

      12- إن القـدر الواجب من الخـوف: ما حال بين صاحبه ومحارم الله عز وجل، وهـو الخوف الصادق المحمود، فإن تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط. وإن ثمرته: الأمن التام الدائم في الآخرة.

      13- إن أحسن ما قيل في الزهد والورع وأجمعها: أن الزهد ترك العبد ما لا ينفع في الآخرة، والورع: تركه ما يخاف ضرره في الآخرة. وأن يكون بما في يد الله أوثق منه بما في يده، وأن يكون في ثواب المصيبة – إذا أصيب بها- أرغب منه فيها لو لم تصبه.

      14- إن زهد المشمرين في السير إلى الله نوعان:

      النوع الأول: الزهد في الدنيا جملة، وذلك بإخراج الزاهد لها من قلبه بالكلية وإن كانت في يده. [ ص: 124 ] النوع الثاني: الزهد في النفس، وهو نوعان أيضا:

      أحدهما: وسيلة وبداية، وهو أن يميت الزاهد نفسه، فلا يبقى بها عنده من القـدر شيء، فلا يغضب ولا ينتصر ولا ينتقم لها، بل يبيح عرضها ويجعله في سبيل الله.

      والثاني: غاية وكمال، وهو أن يبذلها لله جملة، بحيث لا يستبقي منها شيئا، ويزهد فيها زهد المحب في قـدر خسيس من ماله قد تعلقت رغبة محبوبه به.

      15- إن الذي يصحح زهد العبد في الدنيا ثلاثة أمور:

      الأول: علمه أنها ظل زائل وخيال زائر.

      الثاني: علمه أن وراءها دارا أعظم منها قدرا وأجل خطرا، وهي دار البقاء.

      الثالث: معرفته أن زهده فيها لا يمنعه شيئا كتب له منها، وأن حرصه عليها لا يجلب له ما لم يقض له منها.

      16- إن الرجاء: هو الاستبشار بجود الله تبارك وتعالى وفضله والارتياح لمطالعة كرمه سبحانه. والفرق بينه وبين التمني: أن الرجاء يكون مع استفراغ الجهد والطاقة في الإتيان بأسباب الفوز والظفر. والتمني حديث النفس بحصول ذلك مع تعطيل الأسباب الموصلة إليه.

      17- إن الرجاء من أجل منازل السائرين إلى الله وأعلاها وأشرفها، وعليه وعلى الحب والخوف مدار السير إلى الله. [ ص: 125 ] 18- إن الرجاء ثلاثة أنواع: نوعان محمودان، ونوع غرور مذموم.

      فالأولان: رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله، فهو راج لثوابه. ورجاء رجل أذنب ذنوبا ثم تاب منها، فهو راج لمغفرة الله وعفوه وإحسانه وجوده وحلمه وكرمه.

      والثالث: رجـاء رجل متمـاد في التفريط والخطايا، يرجو رحمة الله بلا عمل، فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب.

      19- إن الرجاء يستلزم ثلاثة أمور: محبة ما يرجوه، وخوفه من فواته، وسعيه في تحصيله بحسب الإمكان.

      20- إنه ينبغي على السالك الجمع بين مقامي الخوف والرجاء، وأن يغلب الخوف في حال الصحة، ويغلب الرجاء في حال دنو الأجل.

      21- إن للرجاء فوائد كثيرة، منها:

      أ- إظهار العبودية والفاقة والحاجة إلى ما يرجوه العبد من ربه ويستشرفه.

      ب- أن الرجاء يطيب للعبد السير إلى الله ويحثه عليه ويبعثه على ملازمته.

      ج- أنه يطرحه على عتبة المحبة ويلقيه في دهليزها.

      د- أنه يبعثه على مقام الشكر، الذي هو خلاصة العبودية وأعلى المقامات.

      هـ- أنه مستلزم للخوف، فكل راج خائف. [ ص: 126 ] 22- إن المراقبة: هي دوام علم العبد السالك وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه.

      23- إن الإخلاص: هو إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة، وتصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين.

      24- إن للإخلاص ثلاث آفات هي: رؤية العبد لعمله وملاحظته إياه، وطلب العوض عليه، ورضاه به وسكونه إليه.

      ولذا يخلصه من رؤيته لعمله: مشاهدته لمنة الله عليه وفضله وتوفيقه له، وأنه بالله لا بنفسه.

      والذي يخلصه من طلب العوض على عمله: علمه بأنه عبد محض، والعبد لا يستحق على خدمته لسيده عوضا ولا أجرة.

      والذي يخلصه من رضاه بعمله وسكونه إليه أمران:

      أحدهما: مطالعة عيوبه وآفاته وتقصيره في عمله، وما فيه من حظ النفس ونصيب الشيطان.

      الثاني: علمه بما يستحقه الرب جل جلاله من حقوق العبودية وآدابها الظاهرة والباطنة وشروطها، وأنه أضعف وأعجز وأقل من أن يفي بها لله على الوجه الأمثل والأكمل.

      25- إن الاستقامة كلمة آخذة بمجامع الدين، وتعني: القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والوفاء بالعهد، ووقوع الأفعال والأقوال والأحوال والنيات لله وبالله وعلى أمر الله. [ ص: 127 ] وتكون بأمرين:

      الأول: أن تتقدم محبة الله سبحانه عند العبد على جميع المحاب.

      الثاني: تعظيم أوامر الله ونواهيه، وهو ناشئ عن تعظيم الآمر الناهي.

      26- إن التـوكل هو: الاستعانة، ويمثل مركب السائر إلى الله الذي لا يتأتى له السير إلا به، ذلك أنه حقيقة العبودية، ومن لوازم الإيمان ومقتضياته، فمن لا توكل له لا إيمان له.

      27- إن العبد لا يستكمل مقام التوكل إلا بثمانية أمور:

      الأول: المعرفة بالله سبحانه وصفاته.

      الثاني: إثبات الأسباب والمسببات، والأخذ بالأسباب مع عدم الركون إليها وقطع علاقة القلب بها.

      الثالث: رسوخ القلب في مقام توحيد التوكل.

      الرابع: اعتماد القلب على الله واستناده وسكونه إليه.

      الخامس: حسن الظن بالله.

      السادس: استسلام القلب له سبحانه وانجذاب دواعيه كلها إليه وقطع منازعاته.

      السابع: التفويض، وهو روح التوكل ولبه وحقيقته.

      الثامن: الرضا بالقدر، وهو ثمرة التوكل وأعظم فوائده. [ ص: 128 ] 28- إن الصبر: هو حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش. وينقسم إلى: صبر بالله، وصبر لله، وصبر مع الله. كما ينقسم باعتبار متعلقه إلى: صبر على الأوامر والطاعات، وصبر على المناهي والمخالفات، وصبر على المحن والأقدار والمصائب.

      29- وهو واجب بإجماع الأمة، ويمثل نصف الإيمان، والنصف الآخر يمثله الشكر، وهو من الإيمان بمنـزلة الرأس من الجسد، فلا إيمان لمن لا صبر له، كما أنه لا جسد لمن لا رأس له.

      30- وتتمثل فضائل الصبر في القرآن الكريم في الآتي:

      الأمر به، والنهي عن ضده، وإيجابه سبحانه محبته للصابرين، وإيجابه معيته لهم، وإخباره أن الصبر خير لأصحابه، وإيجابه الجزاء لهم بأحسن أعمالهم، وإيجابه سبحانه الجزاء لهم بغير حساب، وإطلاق البشرى لهم، وضمان النصر والمدد لهم، والإخبار بأنهم أهل العزائم، والإخبار بأنهم هم الذين ينتفعون بالآيات والعبر، والإخبار بأنهم إنما نالوا الفوز بالجنة والنجاة من النار بالصـبر، وأن الصـبر يورث صـاحبه الإمامة في الدين، واقترانه بالإسلام والإيمان واليقين والتقوى والتوكل والشكر والرحمة والعمل الصالح. [ ص: 129 ] كما تتمثل هذه الفضائل في السنة النبوية في الآتي:

      اقتران النصر بالصبر، وأن الصبر نبراس ينير معالم الطريق، وتوفيق الله عز وجل الصابرين، وأن الصبر خير عطاء أعطيه المؤمن وأوسعه، وتعريف الإيمان بالصبر والسماحة.

      31- وتتمثل الأسباب المعينة على الصبر عن المعصية في الآتي:

      علم العبد بقبح المعصية ودناءتها، والحياء من الله عز وجل، ومراعاة نعم الله عليه وإحسانه إليه، وخوف الله وخشية عقابه، ومحبته، وشرف نفس العبد وزكاؤها وفضلها وأنفتها وحميتها أن تفعل ما يحط من قدرها ويحقرها، وقوة العلم بسوء عاقبة المعصية وقبح أثرها وضررها، وقصر الأمل، ومجانبة الفضول في المطعم والمشرب والملبس والمنام والاجتماع بالناس، وثبات شجرة الإيمان في القلب.

      وتتمثل الأسباب المعينة على الصبر على الطاعة في الآتي:

      معرفة الأسباب المعينة على الصبر عن المعصية، ومعرفة ما تجلبه الطاعة من العواقب الحميدة والآثار الجميلة، والإيمان والمحبة.

      كما تتمثل أهم الأسباب المعينة على الصبر على المحن والمصائب في الآتي:

      شهود جزائها وثوابها، وشهود تكفيرها للسيئات ومحوها لها، وشهود القدر السابق الجاري بها، وأنها مقدرة في أم الكتاب قبل أن يخلق المبتلى فلا بد منها، وشهوده حق الله عليه في تلك البلوى المتمثل في وجوب الصبر، وشهود ترتبها عليه بذنبه، وأن يعلم أن الله قد ارتضاها له واختارها [ ص: 130 ] وقسمها، وأن العبودية تقتضي رضاه بما رضي له به سيده ومولاه، وأن يعلم أن المصيبة ما جاءت لتهلكه وتقتله، وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه، وأن يعلم كذلك أن الله يربي عبده على السراء والضراء والنعمة والبلاء، فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال.

      32- إن الذكر قوت قلوب السائرين، وسلاحهم الذي به يقاتلون قطاع الطريق، وماؤهم الذي يطفئون به التهاب الطريق، ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منهم القلوب، والسبب الواصل بينهم وبين علام الغيوب.

      33- وينقسم الذكر إلى قسمين رئيسين:

      القسم الأول: ذكر أسماء الرب تبارك وتعالى وصفاته، والثناء عليه بهما، وتنـزيهه وتقديسه عما لا يليق به. وهو نوعان:

      الأول: إنشاء الثناء عليه بها من الذاكر.

      الثاني: الخبر عنه سبحانه بأحكام أسمائه وصفاته. وهو حمد، وثناء، ومجد.

      القسم الثاني: ذكر أمره سبحانه ونهيه وأحكامه. وهو نوعان أيضا:

      الأول: ذكره بذلك إخبارا عنه بأنه أمر بكذا ونهى عن كذا، وأحب كذا، وسخط كذا، ورضى كذا.

      الثاني: ذكره عند أمره فيبادر إليه، وعند نهيه فيهرب منه.

      وأفضل الذكر ما تواطأ عليه القلب واللسان.

      34- إن للذكر نحو مائة فائدة، منها: أنه يرضي الرحمن ويطرد الشيطان، ويزيل الهم والغم، وينور الوجه والقلب، ويجلب الرزق، ويزيل الوحشة، ويحط الخطايا، ويورث الذاكر المحبة والمراقبة والإنابة. [ ص: 131 ] 35- تنقسم المحبة إلى قسمين رئيسين: محبة نافعة، ومحبة ضارة. والمحبة النافعة ثلاثة أنواع: محبة الله، ومحبة في الله، ومحبة ما يعين على طاعة الله واجتناب معصيته.

      والمحبة الضارة ثلاثة أنواع أيضا: المحبة مع الله، ومحبة ما يبغضه الله، ومحبة ما تقطع محبته عن محبة الله أو تنقصها.

      ومحبة الله أصل المحاب المحمودة، وأصل الإيمان والتوحيد، والنوعان الآخران تبع لها. والمحبة مع الله أصل الشرك والمحاب المذمومة، والنوعان الآخران تبع لها.

      36- ومن لوازم محبة الله:

      أ- توحيد الله وإفراده بجميع أنواع العبادة.

      ب- وموافقة الله في اتباع ما يأمر به واجتناب ما ينهى عنه.

      ج- محبة القرآن الكريم والالتذاذ بسماعه.

      37- وتتمثل الأسباب الجالبة لمحبة الله في الأسباب العشرة التالية :

      أ- قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه.

      ب- التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض.

      ج- دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال.

      د- إيثار محابه سبحانه على محاب العبد.

      هـ- مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها ومعرفتها.

      و- مشاهدة بره وإحسانه وآلائه ونعمه الباطنة والظاهرة.

      ز- انكسار القلب بكليته بين يديه سبحانه. [ ص: 132 ] ح- الخلوة به وقت النـزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه.

      ط- مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم.

      ي- مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل.

      38- تتمثل أهم ضوابط قيم السلوك مع الله عند ابن القيم في الضوابط الآتية:

      أ- الإيمان بالله تعالى.

      ب- العبودية الخالصة لله تعالى.

      ج- الالتـزام بالكتاب والسنة والتحاكم إليهما.

      د- متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء به.

      هـ- تعلم العلم الشرعي.

      و- الالتـزام بأداء التكاليف الشرعية.

      ز- اجتناب الذنوب والمعاصي.

      39- ومدار الإيمان بالله على أصلين:

      أحدهما: التصديق بخبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .

      والثاني: طاعة أوامرهما.

      ويتبع هذين الأصلين أمران هما:

      - رد شبهات الباطل التي توحيها شياطين الجن والأنس في معارضة الخبر.

      - ومجاهدة النفس في دفع الشهوات التي تحول بين العبد وكمال الطاعة.

      40- إن العبودية المطـلوبة من السائر إلى الله عبودية الطاعة والمحبة، لا عبودية القهر والملك والغلبة. [ ص: 133 ] 41- وللعبودية مراتب بحسب العلم والعمل.

      أما مراتبها بحسب العلم فمرتبتان هما: العلم بالله، والعلم بدينه.

      والعلم بالله خمس مراتب هي: العلم بذاته سبحانه، وصفاته، وأفعاله، وأسمائه، وتنـزيهه عما لا يليق به.

      والعلم بدينه مرتبتان هما: دينه الأمري الشرعي، وهو الصراط المستقيم الموصل إليه؛ ودينه الجزائي المتضمن ثوابه وعقابه.

      وأما مراتبها بحسب العمل فمرتبتان هما: مرتبة لأصحاب اليمين، ومرتبة للسابقين المقربين.

      42- إن الانقياد لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم يكون بثلاثة أمور هي :

      الأول: ألا يعارض شيئا مما جاء به الرسول بشيء من المعارضات الأربعة وهي: المعقول، والقياس، والذوق، والسياسة.

      الثاني: ألا يتهم دليـلا من أدلة الشرع، بحيث يظنـه فاسـد الدلالة أو قاصرها، أو أن غيره كان أولى منه.

      الثالث: ألا يجد إلى خـلاف النص سبيلا ألبتة، لا بباطنه ولا بلسانه ولا بفعله ولا بحاله.

      43- إن الطريق إلى الله مسدود إلا لمن اقتفى آثار الرسول صلى الله عليه وسلم واقتدى به في ظاهره وباطنه. [ ص: 134 ] 44- إن العلم الشرعي إن لم يصحب السالك من أول قدم يضعه في الطريق إلى آخر قدم ينتهي إليه فسلوكه على غير طريق، ومسدودة عليه كل سبل الهدى والفلاح. وفقد العلم في السير إلى الله فقد لحياة القلب والروح.

      45- إن من فوائد العلم الشرعي للسالك: أنه يهذبه ويهيئه لسلوك طريق العبودية لله عز وجل، ويصحح همته، ويهديه إلى الغاية المقصودة له من سيره.

      46- إن من زعم أنه يصل إلى مقام يسقط عنه فيه التعبد لله فهو زنديق كافر بالله ورسوله.

      47- إن من أضرار المعاصي وآثارها القبيحة ما يلي:

      حرمان العلم، وحرمان الرزق، ووحشة القلب، وظلمته، وهوان العبد العاصي على الله، وذلته، وفساد عقله، وضعف قلبه، وذهاب حيائه.

      48- تتمثل المصادر الأساسية لقيم السلوك مع الله عند ابن القيم في المصادر التالية:

      أ- القرآن الكريم.

      ب- السنة النبوية.

      ج- الصحابة، رضوان الله عليهم.

      د- الزهاد والمتصوفة الأوائل.

      هـ- الشيخ أبو إسماعيل الهروي.

      و- شيخ الإسلام ابن تيمية. [ ص: 135 ] 49- إن القرآن الكريم أصل الأصول والمصدر الأول والأساس للأحـكام الشـرعية عند ابن القيـم، سواء في مجال العقيدة، أم العبادة، أم الأخـلاق، أم السـلوك، أم غيرها من المجالات التي جاء الإسلام بتشريعها وتنظيمها.

      50- تتبوأ السنة النبوية المرتبة الثانية عند ابن القيم – بعد كتاب الله – من حيث الاستمداد منها والاحتجاج بها، وقد عني كثيرا بها، وحافظ عليها محافظته على القرآن الكريم، ورأى استقلالها بتشريع الأحكام ووجوب العمل بها.

      51- إن للصحابة، رضي الله عنهم، عند ابن القيم مقاما ساميا جدا ومنـزلة عالية رفيعة، فهم -في نظره- ألين الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأحسنها بيانا، وأصدقها إيمانا، وأعمها نصيحة، وأقربها إلى الله وسيلة. ولذا عني بسيرهم، واستمسك بهديهم، واستمد من هذا الهدي قيم السلوك السوي في السير إلى الله تعالى.

      52- وقـف ابن القيم من أهل التصوف عموما ومن الهروي خصـوصا موقف أهـل العـدل والإنصاف، الذين أعطوا كل ذي حق حقـه وأنـزلوا كل ذي منـزلة منـزلته، فـلم يحكم، رحمه الله، للصحيـح عندهم بحكم السقيـم المعلول، ولا للمعلول السقيم بحكم الصحيـح، بل قبل ما عنـدهم من أقوال وأحوال توافق الكتاب والسنة، ورد ما خالفهما. [ ص: 136 ] 53- كان لشيـخ الإسـلام ابن تيميـة الأثر الإيجـابي البالغ في تكوين ابن القيـم العـلمي، وفي تصحيـح مساره العقدي، وتوجيه فـكره، وتحـديد منهجـه وسلوكه، ولاسيما في ما يتعلق بمنازل العبودية لله عز وجـل، فكان مصدرا مهما من مصادره في تقرير هذه المنازل ومسائلها وقيمها.

      54- ونستنتج من كل ما سبق تميز منهج ابن القيم في قضية (قيم السلوك مع الله) عن مناهج أصحاب التصوف البدعي، الذين زعموا أن السالك منهم إذا سما في درجة القرب من الله سقطت عنه الشرائع كلها من الصلاة والصيام والزكاة وغيرها، وحلت له المحرمات كلها من الزنا والخمر وغيرها من الفواحش [1] .

      والذين فرقوا بين الحقيقة والشريعة، حيث سموا علم الشريعة علم الظـواهر، وسموا هـواجس أنفسـهم وأذواقهم ومواجيدهم علم البواطن أو الحقائق، وادعوا أنهم أرباب الحقائق، وما سواهم من الفقهاء وغيرهم أرباب الظواهر، وأنهم يأخذون عن الله مباشرة بدون واسطة، وما سواهم يأخذون الظواهر بواسطة هي الرسول محمد صلى الله عليه وسلم [2] . [ ص: 137 ] والذين حكموا أذواقهم ومواجيدهم وأعرضوا عن العلم الشرعي معتقدين أنه يشغل السالك ويحول بينه وبين ربه [3] ، واستجابوا لتلك الأذواق والمواجيد حتى أعطوها سلطة المشرع يأتمرون بأمرها وينتهون بنهيها ويقدمونها على الشرع والعلم إذا وجدوا تعارضا بينهما [4] .

      والذين يتعبدون الله بغير ما شرعه سبحانه، سواء كان المتعبد به ليس مشروعا في ذاته، كتعبدهم بالرياضات والأوضاع التي رسموها بأذواقهم ومواجيدهم واصطلاحاتهم [5] ، أم كان المتعبد به مشروعا في ذاته ولكنه ليس مشروعا في الموضع الذي يؤدونه فيه، كصلاتهم ركعتين بعد التوبة، أو كان المتعبد به مشروعا في ذاته وهم يتركونه زهدا وورعا، كقعودهم عن طلب الرزق والنكاح، اعتقادا منهم أن ذلك زهد وتقرب إلى الله عز وجل، فعطلوا سنة من سنن الله في الكون. [ ص: 138 ] والذين يزعمون أن الفقر محمود لذاته ، وأنه مقام شريف من مقامات الوصول إلى الولاية، وأن الفقراء أفضل من الأغنياء على كل حال [6] .

      والذين زعموا أنه يجب على السالك أن يخلو بنفسه في زاوية من الزوايا، وأن يقتصـر على أداء الفـرائض، وألا يفرق فكره بقراءة قرآن ولا النظر في حديث ولا التأمل في تفسير، وينقطع عن علائق الدنيا بالكلية ويفرغ قلبه منها ومن كل خاطر، مع تصفية الفكر للذكر وانتظار ما يلقيه الله بعـد ذلك في قلبه، وهو ما يسمونه بالكشف، حيث ينكشف له حينئذ -كما يزعمون- أمور كثيرة لا يمكن إحصاؤها ولا استقصاؤها [7] .

      والله أسـأل أن يصـلح أمر آخر هذه الأمة كما أصلح أمر أولها، وأن يهب لنا من لدنه رحمـة وعلما ورشدا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. [ ص: 139 ]

      التالي السابق


      الخدمات العلمية