المبحث الثالث: الصحابة، رضوان الله عليهم
الصحابي في اصطلاح جمهور العلماء : «من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به، ولو ساعة، سواء روى عنه أم لا» [1] .
وللصحابة، رضي الله عنهم، عند ابن القيم مقام سام جدا ومنـزلة عالية رفيعة، فهم كما يقول، رحمه الله: «ألين الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأحسنها بيانا، وأصدقها إيمانا، وأعمها نصيحة، وأقربها إلى الله وسيلة» [2] . وكما يقول أيضا في بيان ما امتازوا به عن المتأخرين عنهم: «وكانوا أقرب إلى أن يوفقـوا في مدارك دلالات الألفاظ والأقيسة لما لم نوفق له نحن، لما خصهم الله تعالى به من توقد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم، وسهولة الأخذ، وحسن الإدراك وسرعته، وقلة المعارض أو عدمه، وحسن القصد، وتقوى الرب تعالى، فالعربية طبيعتهم وسليقتهم، والمعاني الصحيحة مركوزة في فطرهم وعقولهم، ولا حاجة بـهم إلى النظر في الإسناد وأحوال الرواة وعلل الحديث والجرح والتعديل، ولا إلى النظر في قواعد الأصول وأوضاع الأصوليين، بل قد غنوا عن ذلك كله، فليس في حقهم إلا أمران:
أحدهما: قال الله تعالى كذا وقال رسوله كذا، والثاني: معناه كذا وكذا، وهم أسعد الناس بهاتين المقدمتين، وأحظى الأمة بهما، فقواهم متوفرة [ ص: 75 ] مجتمعة عليهما...، هذا إلى ما خصوا به من كثرة المعاون وقلة الصارف، وقرب العهد بنور النبوة، والتلقي من تلك المشكاة النبوية» [3] .
ويتسـاءل، رحمه الله: «هـل كان في الصحابة من إذا سمع نص رسول الله صلى الله عليه وسلم عارضه بقياسه أو ذوقه أو وجده أو عقله أو سياسته؟، وهل كان قط أحد منهم يقدم على نص رسـول الله صلى الله عليه وسلم عقلا أو قياسا أو ذوقا أو سياسة أو تقليد مقلد؟، فلقد أكرم الله أعينهم وصانها أن تنظر إلى وجه من هذا حاله أو يكون في زمانهم. ولقد حكم عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عـلى من قدم حـكمه على نص الرسـول بالسيف، وقال: «هذا حكمي فيه» [4] .
ولذا فهم أفقه الأمة وأعلمهم بمراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد جاء القرآن الكريم في التشريع بموافقة بعضهم في رأيه. يقول ابن القيم: «والمقصود أن أحدا ممن بعدهم لا يساويهم في رأيهم، وكيف يساويهم وقد كان أحدهم يرى الرأي فينـزل القرآن بموافقته؟، كما رأى عمر في أسارى بدر أن تضرب أعناقهم فنـزل القرآن بموافقته، ورأى أن تحجب نساء النبي صلى الله عليه وسلم فنـزل القرآن بموافقته، ورأى أن يتخذ من مقام إبراهيم مصلى فنـزل القرآن بموافقته، وقال لنساء النبي صلى الله عليه وسلم لما اجتمعن في الغيرة عليه:
( عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا ) (التحريم:5) ، [ ص: 76 ] فنـزل القرآن بموافقته، ولما توفي عبد الله بن أبي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوبه، فقال: يا رسول الله إنه منافق، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فأنـزل الله عليه: ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ) (التوبة:84) ؛
وقد " قـال سعد بن معاذ لما حكمه النبي صلى الله عليه وسلم في بني قريظة: إني أرى أن تقتل مقاتلتـهم وتسبى ذرياتهم وتغنم أموالهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات " [5] . ولما اختلفوا إلى ابن مسعود شهرا في المفوضة قال: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله برئ منه، أرى أن لها مهر نسائها لا وكس ولا شطط ولها الميراث وعليها العدة، فقام ناس من أشجع فقالوا: نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في امرأة منا يقال لها بروع بنت واشق مثل ما قضيت به، فما فرح ابن مسعود بشيء بعد الإسلام فرحه بذلك. وحقيق بمن كانت آراؤهم بهذه المنـزلة أن يكون رأيهم لنا خيرا من رأينا لأنفسنا» [6] . [ ص: 77 ] وعقد ابن القيم في كتابه (أعلام الموقعين) فصلا بعنوان (الصحابة سادة المفتين والعلماء) ، قال فيه: «وكما أن الصحابة سادة الأمة وأئمتها وقادتها، فهم سادات المفتين والعلماء. قال الليث عن مجاهد: العلماء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وقـال سعيـد عن قتادة [7] في قوله تعالى: ( ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ) (سبأ:6) ؛
قـال: أصحـاب محمد صلى الله عليه وسلم » [8] ، ثم أفاض، رحمه الله، في بيان علمهم وخصالهم وفضلهم [9] .
ولكل ما تقـدم يرى ابن القيم حجية قول الصحابي ووجوب اتباعه لمن جاء بعد عصر الصحابة، وقد بسط الكلام في ذلك فأقام عليه ستة وأربعين دليلا [10] .
فلا غرو بعد ذلك أن يستشهد ابن القيم بأقوال الصحابة، رضي الله عنهم، ويعنى بسيرهم، وأن يتأسى بهم ويستمسك بهديهم، ويستمد من هذا الهدي قيم السلوك السوي في السير إلى الله، فقد كانوا - في نظره- مع فضلهم ودينهم وجهادهم وقلة تكلفهم أعلم الخلق بالله بعد رسله، وأعرف الناس بمقامات السالكين ومنازل السائرين إليه سبحانه [11] . [ ص: 78 ] ومن شواهد استمداده من هدي الصحابة واستشهاده بأقوالهم وأحوالهم مما يخص موضوع بحثنا هنا ما يلي:
1- يستشهد في معرض بيانه لحقيقة (التوبة النصوح) المذكورة في قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ) (التحريم:8) ؛
يستشهد بما أثر عن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب، رضي الله عنهما، أنهما قالا: «التوبة النصوح: أن يتوب، أي العبد، من الذنب، ثم لا يعود إليه كما لا يعود اللبن إلى الضرع» [12] .
2- وفي حديثه عن تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر يورد آراء بعض الصحابة، كأبي هريرة وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وزيد بن ثابت، رضي الله عنهم، في بيان المراد باللمم المذكور في قوله تعالى: ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) (النجم:32) ؛
وينتهي إلى أن «الصحيح قول الجمهور، وهو: أن اللمم صغائر الذنوب، ...، فهذا قول جمهـور الصحابة ومن بعدهم، وهو قول أبي هريرة وعبد الله بن مسعود وابن عباس...» [13] .
3- ويقـرر أن التوبة محفـوفة بمحـاسبتين، ويستشـهد بأثر لعمر ابن الخطاب، رضي الله عنه، في المحاسبة، حيث يقول: " والتحقيق أن التوبة بين محاسبتين، محاسبة قبلها تقتضي وجوبها، ومحاسبة بعدها تقتضي حفظها " ، [ ص: 79 ] وقد دل على المحاسبة قوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد ) (الحشر:18) ،
فأمر سبحانه العبد أن ينظر ما قـدم لغـد، وذلك يتضمن محـاسبة نفسه على ذلك والنظر هل يصلح ما قدمه أن يلقى الله به أو لا يصلح؟. والمقصود من هذا النظر: ما يوجبه ويقتضيه من كمال الاستعداد ليوم المعاد وتقديم ما ينجيه من عذاب الله ويبيض وجهه عند الله. قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا،
وتـزينوا للعرض الأكبر: ( يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ) (الحاقة:18) »،
أو قال: «على من لا تخفى عليه أعمالكم» [14] .
4- ويحتج بأحوال الصحابة في بطلان ما ذهب إليه المنحرفون من أهل السلوك والتصـوف في اشتراطهم لتمام مقام (التوبة) فناء العبد السالك وغيبته عن شهود توبته وتوبته من رؤية هذه التوبة، ويطالبهم بالدليل على ما ذهبـوا إليه من القرآن أو السنة أو كلام سادات العارفين من الصحابة ومن تبعهم [15] .
5- ويقرر -في مقام (الخوف) - أن درجة الخوف من الله إنما تكون على حسب العلم بالله والقرب منه والمنـزلة عنده، وأنه كلما كان العبد [ ص: 80 ] أعلم بالله وإليه أقرب كان خوفه منه أشد [16] ، ويستشهد بأحوال الصحابة، رضي الله عنهم، في شدة خوفهم من الله، حيث يقول: «من تأمل أحوال الصحابة، رضي الله عنهم، وجدهم في غاية العمل مع غاية الخوف، ونحن جميعا بين التقصير بل التفريط والأمن، فهذا الصديق، رضي الله عنه، يقول: «وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن»، ذكره أحمد عنه، وذكر عنه أنه كان يمسك بلسانه ويقول: «هذا الذي أوردني الموارد»، وكان يبكي كثيرا ويقـول: «ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا». وكان إذا قام للصلاة كأنه عود من خشية الله عز وجـل. وأتى بطائر فقلبه ثم قـال: «ما صيد من صيد، ولا قطعت شجرة من شجرة إلا بما ضيعت من التسبيح». ولما احتضر قال لعائشة: «يا بنية إني أصبت من مال المسلمين هذه العباءة وهذا الحلاب وهذا العبد، فأسرعي به إلى ابن الخطاب»، وقال: «والله وددت أني كنت هذه الشجرة تؤكل وتعضد». وقال قتادة: «بلغني أن أبا بكر قال: ليتني خضرة تأكلني الدواب».
وهذا عمر قرأ سورة الطور حتى إذا بلغ: ( إن عذاب ربك لواقع ) (الطور:7) ؛
بكى واشتد بكاؤه حتى مرض وعادوه. وقال لابنه وهو في الموت: «ويحك ضع خدي على الأرض عساه أن يرحمني، ثم قال: ويل أمي إن لم يغفر لي ثلاثا»، ثم قضى. وكان يمر بالآية في ورده بالليل فتخيفه، [ ص: 81 ] فيبقى في البيت أياما يعاد، يحسبونه مريضا. وكان في وجهه، رضي الله عنه ، خطان أسودان من البكاء...
وهذا عثمان بن عفان، رضي الله عنه ، كان إذا وقف على القبر يبكي حتى يبل لحيته، " ويقول: لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي لاخترت أن أكون رمادا قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير " .
وهذا علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، وبكاؤه وخوفه. وكان يشتد خوفه من اثنتين: طول الأمل، واتباع الهوى. " قال: فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، ألا وإن الدنيا قد ولت مدبرة والآخرة مقبلة، ولكل واحدة بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل " .
وهذا أبو الدرداء، رضي الله عنه ، كان " يقول: إن أشد ما أخاف على نفسي يوم القيامة أن يقال لي: يا أبا الدرداء قد علمت، فكيف عملت بما علمت؟ " .
وكان " يقول: لو تعلمون ما أنتم لاقون بعد الموت لما أكلتم طعاما على شهوة، ولا شربتم شرابا على شهوة، ولا دخلتم بيتا تستظلون فيه، ولخرجتم إلى الصعيد تضربون صدوركم وتبكون على أنفسكم " .
وكان عبد الله بن عباس، رضي الله عنه ، أسفل عينيه مثل الشراك البالي من الدموع.
" وكان أبو ذر، رضي الله عنه ، يقول: «يا ليتني كنت شجرة تعضد، ووددت أني لم أخلق " ... [ ص: 82 ]
" وقال أبو عبيدة عامر بن الجراح: وددت أني كبش فذبحني أهلي وأكلوا لحمي وحسوا مرقي " ... وقال ابن أبي مليكة: «أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه» [17] .
6- ويستنبط من " قول علي بن أبي طالب، رضي الله عنه : لا يرجون عبد إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه " ، يستنبط منه أن الرجاء متعلق بالرب تعالى، لأن رحمته من لوازم ذاته، وهي سبقت غضبه، وأما الخوف فمتعلق بالذنب فهو سبب المخافة [18] .
7- ويشير -في مقام (الزهد) - إلى كل من عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام والحسن بن علي، رضي الله عنهم ، ويذكر أنهم نماذج رائعة في الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، مع ما كان لهم من حظ في الدنيا، وأنه من سيرهم تعرف حقيقة (الزهد) ومفهومه الصحيح [19] .
8- ويورد في بيان حقيقة (الاستقامة) المذكورة في قوله تعالى: ( وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا ) (الجن:16) ؛ ما أثر عن الصحابة فيها، حيث يقول: «سئل صديق الأمة وأعظمها استقامة أبو بكر [ ص: 83 ] الصديق، رضي الله عنه ، عن الاستقامة، " فقال: «أن لا تشرك بالله شيئا» " ، يريد الاستقامة على التوحيد. " وقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه : الاستقامة: أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعالب " . " وقال عثمان بن عفان، رضي الله عنه : استقاموا: أخلصوا العمل لله " . " وقال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه وابن عباس، رضي الله عنهما : استقاموا: أدوا الفرائض " [20] .
9- ويؤكد على ضرورة فعل الأسباب الجالبة للنفع والخير والدافعة للضر والشر مع التوكل على الله تعالى، وأن ذلك لا ينافي التوكل على الله ولا يقدح فيه، وأن التجرد من هذه الأسباب جملة ممتنع عقلا وشرعا وحسا، ويرد على من انحرف عن المنهج الحق في هذه المسألة من بعض العباد والسالكين، ويحتج عليهم بحال النبي صلى الله عليه وسلم وحال أصحابه، رضي الله عنهم ، في التوكل. ومما قاله بهذا الشأن قوله:
«... وقد ظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين يوم أحد، ولم يحضر الصف قط عريانا -كما يفعله من لا علم عنده ولا معرفة-، وأستأجر دليلا مشركا يدله طريق الهجرة، وقد هدى به العالمين وعصمه من الناس أجمعين، وكان يدخر لأهله قوت سنة وهو سيد المتوكلين، وكان إذا سافر في جهاد أو حج أو عمرة حمل الزاد والمزاد وجميع أصحابه، وهم أولو التوكل حقا. وأكمل المتوكلين بعدهم هو من اشتم رائحة توكلهم من مسيرة بعيدة أو لحق أثرا [ ص: 84 ] من غبارهم. فحال النبي صلى الله عليه وسلم وحال أصحابه محك الأحوال وميزانها، بها يعلم صحيحها من سقيمها، فإن هممهم كانت في التوكل أعلى من همم من بعدهم، فإن توكلهم كان في فتح بصائر القلوب، وأن يعبد الله في جميع البلاد، وأن يوحده جميع العباد، وأن تشرق شموس الدين الحق على قلوب العباد، فملأوا بذلك التوكل القلوب هدى وإيمانا...» [21] .
10- وفي تحليله لأسباب نشوء الصبر على البلاء؛ يذكر أن من هذه الأسباب: شهود ترتب البلاء على العبد بذنبه،
كما قال تعالى: ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ) (الشورى:30) ،
ويستشهد في ذلك بما أثر عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه قال: «ما نـزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع بلاء إلا بتوبة» [22] .
11- ويستشهد في بيان فضل (الصبر) بالعديد من الآثار، منها: ما أثر عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه ، أنه " قال: وجدنا خير عيشنا بالصبر " [23] ، وما أثر عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه ، أنه " قال: الصبر مطية لا تكبو " [24] ، وما أثر " عن ابن مسعود، رضي الله عنه ، أنه قال: «الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر " [25] . [ ص: 85 ] 12- ويتابع أبا إسماعيل الأنصاري الهروي [26] في أن إحدى درجات (الصدق) لدى العبد السالك: أن لا يحب أن يعيش إلا ليشبع من رضى محبوبه ويقوم بعبوديته، ويستـكثر من الأسباب التي تقربه إليه وتدنيه منه، لا لعلة من علل الدنيا ولا لشهوة من شهواتـها. ويستشهد في ذلك بما أثر عن عمر بن الخطـاب، رضي الله عنه، أنه قال: «لولا ثلاث لما أحببت البقاء: لولا أن أحمل على جياد الخيل في سبيل الله، ومكابدة الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب التمر» [27] ، وبما أثر عن معاذ ابن جبل، رضي الله عنه، أنه قال عند موته: «اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقـاء لجري الأنـهار، ولا لغرس الأشجار، ولا لنكح الأزواج، ولكن لظمـأ الهواجـر، ومكابدة الليل، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر» [28] . [ ص: 86 ]