المبحث السادس: شيخ الإسلام ابن تيمية
شيخ الإسلام ابن تيمية، هو تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني الدمشقي الحنبلي، العالم الرباني، والمجاهد والمجدد الإسلامي في القرن السابع الهجري، وأبرز أعلام السلفية في مرحلتها الثانية [1] ، انتهت إليه رئاسة المذهب الحنبلي وهو ابن إحدى وعشرين سنة، بلغ الإمامة في العلم والعمل، والزهد والورع، والشجاعة والأناة، والتواضع والحلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع الصدق والأمانة، وحسن التوجه والقصد. فاق الأقران وحاز قصب السبق في مختلف العلوم، ولاسيما العقيدة والسلوك والتفسير، والحديث وأسانيده ونقد الرجال، والفقه وأصوله، وعلوم العربية. دعا إلى التوحيد الخالص القائم على الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح، وحارب التدين الزائف القائم على الاعتقاد بالحلول والاتحاد لدى الصوفية الوجودية، كما حارب البدع والشرك والخرافات واتخاذ قبور الأولياء والصالحين أماكن مقدسة تـزار وتشد إليها الرحال. وبث روح التجديد في الفكر الإسلامي بفتح باب الاجتهاد ومحاربة الجمود والتعصب المذهبي، وشن غارات قوية على النصيرية والباطنية بالشام مبينا خطورة مذهبهم، وناقش عقائد الفرق المختلفة كالخوارج والشيعة والمرجئة [ ص: 110 ] والقدرية والجهمية نقاشا قويا مبينا مواطن الضعف والخلل فيها، ودخل في مناظرات طويلة مع الفلاسفة والمتكلمين، وانتقد الفلسفة اليونانية ونقض المنطق الأرسطي.
وقد لقي، رحمه الله، العنت وتكبد المشاق الكثيرة بسبب مواقفه تلك من الفرق المختلفة وخصومته لعلم الكلام وطعونه في الصوفية ومشائخها، وكذلك بسبب آرائه الجريئة التي ساقته إليها اجتهاداته المدعمة بالأدلة، والتي سفه بها بعض الآراء الفقهية، حيث اضطهد من قبل خصومه، وأوذي وسجن مرات عديدة في القاهرة والأسكندرية، ودمشق، ولكنه ظل صابرا محتسبا لا يبالي بما يلقى من الأذى في سبيل دعوته إلى أن وافاه الأجل وهو محبوس بقلعة دمشق في ليلة الاثنين؛ العشرين من ذي القعدة سنة 728هـ، وقد خلف ثروة فكرية وفقهية عظيمة تمثلت في حوالي خمسمائة مؤلف، أشغلت الباحثين من بعده في دراستها وتحقيقها وتحليلها وترجمتها.
وقد تقدم معنا في التمهيد أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان أبرز العلماء الذين تتلمذ ابن القيم على أيديهم، حيث لازمه ستة عشر عاما [2] ، فكان لهذه الملازمة والصحبة الطويلة الأثر الإيجابي البالغ في تكوينه العلمي [ ص: 111 ] الشرعي، وفي تصحيح مساره العقدي [3] ، وتوجيه فكره، وتحديد منهجه وسلوكه، حيث نهل من علومه ومعارفه، واتبع مذهبه، وهذب كتبه، وانتصر لغالب أقواله وآرائه [4] ، وشاركه في جهاده الفكري العقدي واجتهاده الفقهي، «حتى صار أبرع تلاميذه وألمعهم نجما وأجلاهم اسما، فلا يكاد يذكر ابن تيمية إلا ويذكر معه تلميذه ابن القيم، وسرى نور هذين العالمين في آفاق المعمورة بسعة العلم وأصالة الفكر والتجديد في دعوة الناس إلى صراط الله المستقيم» [5] .
وقد حصل لابن القيم بسبب مشاركته لشيخه ابن تيمية في جهاده واجتهاده، وتمسكه بمذهبه، ومناصرته له في ذات الله الكثير من الأذى، فقد امتحن وأوذي وحبس بقلعة دمشق بعد ما أهين وطيف به على جمل مضروبا بالدرة، ولم يفرج عنه إلا بعد وفاة شيخه [6] .
ويبين لنا ابن القيم تأثير ما رآه من شيخه في نفسه، فيسجل طرفا من سجـاياه وفضائله التي شاهدها فيه وعرفها عنه، وشيئا من وصاياه وتوجيهاته له. [ ص: 112 ] أما السجايا والفضائل، فمنها:
تواضع شيـخ الإسـلام ابن تيمية، وإخلاصه في عبادة الله، وحرصه على البعد عن الرياء، وإخفـاء أحـواله مع الله عن الخلق، ليصح له سيره إلى الله. وفي هذا يقـول ابن القيم: «ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - من ذلك أمرا لم أشاهده من غيره. وكان يقول كثيرا: (مالي شيء، ولا مني شيء، ولا في شيء) ، وكان كثيرا ما يتمثل بهذا البيت:
أنا المكدي [7] وابن المكدي
وهكذا كان أبي وجدي
وكان إذا أثني عليه في وجهه يقول: (والله إني إلى الآن أجدد إسلامي كل وقت، وما أسلمت بعد إسلاما جيدا) ، وبعث إلي في آخر عمره قاعدة في التفسير بخطه، وعلى ظهرها أبيات بخطه من نظمه:
(أنا الفقير إلى رب البريات أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي لا أستطيع لنفسي جلب منفعة
أنا المسيكين في مجموع حالاتي والخير إن يأتنا من عنده يأتي ولا عن النفس لي دفع المضرات) » [8] إلى آخر الأبيات.
حرصه على ذكر الله ومداومته عليه، وفي هذا يقول ابن القيم: «ومن تجريبات السـالكين التي جربوها فألفوهـا صحيحة: أن من أدمن [ ص: 113 ] (يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت) أورثه ذلك حيـاة القلب والعقل، وكان شيخ الإسـلام ابن تيميـة – قدس الله روحه – شديد اللهج بها جدا. وقال لي يوما: (لهذين الاسمين – وهما الحي القيوم – تأثير عظيم في حياة القـلب) ، وكان يشـير إلى أنـهما الاسـم الأعظـم، وسمعته يقول: (من واظـب على أربعـين مرة كل يوم بين سنة الفجر وصـلاة الفجر: يا حي يا قيـوم لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث، حصلت له حياة القلب، ولم يمت قلبه) » [9] .
إحسانه إلى من أساء إليه، ومعاملته بضد ما عامله به، وفي هذا يقول ابن القيم: «ما رأيت أحدا قط أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه -، وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: (وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه) . وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، وكان يدعو لهم. وجئت يوما مبشرا له بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني وتنكر لي واسـترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم، وقال: (إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه) ، ونحو هذا من الكلام، فسروا به، ودعوا له، وعظموا هذه الحال منه، فرحمه الله ورضي عنه» [10] . [ ص: 114 ] قـوة فراستـه رحمه الله، وفي هذا يقول ابن القيم: «لقد شاهدت من فراسة شيـخ الإسـلام ابن تيمية، رحمه الله، أمورا عجيبة، وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم، ووقائع فراسته تستدعي سفرا ضخما». وبعد ذكره لبعـض هذه الوقائع ختم كلامه بقوله: «وأخبرني غير مرة بأمور باطنة تختص بي مما عزمت عليه ولم ينطق به لساني، وأخبرني ببعض حوادث كبار تجري في المستقـبل، ولم يعين أوقاتـها، وقد رأيت بعضـها وأنا أنتظر بقيتهـا. وما شاهـده كبار أصحابه من ذلك أضعاف أضعاف ما شاهدته» [11] .
وأما الوصايا والتوجيهات، فمنها:
توجيهه له بدفع الشبهات عن قلبه، وفي هذا يقول ابن القيم: «قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية، رضي الله عنه، وقد جعلت أورد عليه إيرادا بعد إيراد-: (لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها فلا ينضج إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها، صار مقرا للشبهات) ، فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك» [12] . [ ص: 115 ] توجيهه له بترك التوسع في المباح، وفي هذا يقول ابن القيم: «قال لي يوما شيخ الإسلام ابن تيمية – قدس الله روحه – في شيء من المباح: (هذا ينافي المراتب العالية، وإن لم يكن تركه شرطا في النجاة) ...، فالعارف يترك كثيرا من المباح إبقاء على صيانته، ولا سيما إذا كان ذلك المباح برزخا بين الحلال والحرام» [13] .
وتوجيهه له في ترويض نفسه على ما يمر بها من عوارض ومحن، وفي هذا يقول ابن القيم: «قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، مرة: (العوارض والمحن هي كالحر والبرد، فإذا علم العبد أنه لا بد منهما لم يغضب لورودهما، ولم يغتم لذلك ولم يحزن) » [14] .
ولقد تأثر ابن القيم كثيرا بأقوال شيخه وأحواله في منازل العبودية لله عز وجل، فكانت بحق مصدرا مهما من مصادره في تقرير هذه المنازل ومسائلها وقيمها.
ومما يؤكد هذا التأثر إكثاره، رحمه الله، من الاستشهاد بهذه الأقوال والأحوال والاستئناس بها. ومن ذلك على سبيل المثال ما يلي:
استشهاده بقول شيخه في معرض بيانه لحقيقة الخوف المحمود، حيث يقول: «والخـوف المحمود الصادق: ما حال بين صاحبه ومحارم الله عز وجل، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط...، سمعت شيخ [ ص: 116 ] الإسلام ابن تيمية – قدس الله روحه – يقول: (الخوف المحمود: ما حجزك عن محارم الله) » [15] .
استئـناسـه بقـول شيخـه في تعريف (الزهـد) وبيان حقيقته، حيث يقـول: «سمعت شيخ الإسـلام ابن تيمية – قدس الله روحه – يقول: (الزهد: ترك ما لا ينفع في الآخرة. والورع: ترك ما تخاف ضرره في الآخرة) ، وهذه العبارة من أحسن ما قيل في الزهد والورع وأجمعها» [16] .
استشهاده – في معرض حديثه عن منـزلة (المراقبة) – بقول لشيخـه في سرور القـلب بالله وفرحه بعبادته، حيث يقول: «ولا ريب أن هذا السرور يبعثه على دوام السـير إلى الله عز وجل، وبذل الجهد في طلبه وابتغاء مرضـاته، ومن لم يجـد هـذا السرور ولا شيئا منه فليتهم إيمانه وأعماله، فإن للإيمان حلاوة، ومن لم يذقها فليرجع ويقتبس نورا يجد به حلاوة الإيمان...، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية – قدس الله روحه – يقـول: (إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحا فاتهمه، فإن الرب تعـالى شـكور) ، يعني أنه لا بد أن يثيب العامـل على عمـله في الدنيا من حلاوة يجدها في قلبه، وقوة انشراح وقرة عين، فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول» [17] . [ ص: 117 ] ويورد في بيان حقيقة (الاستقامة) المذكورة في قوله تعالى: ( وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا ) (الجن:16) ما سمعه من شيخ الإسلام أنه كان يقول: «استقاموا على محبته وعبوديته، فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة» [18] .
وفي تقريره للأمر الثاني الذي يستقيم به قلب السالك، وهو: تعظيم الأمر والنهي، يستشهد بما سمعه عن شيخه في ذلك، حيث يقول: «... وما أحسن ما قال شيـخ الإسـلام في تعظيم الأمر والنهي، وهو: (ألا يعارضا بترخص جاف، ولا يعارضا بتشديد غال، ولا يحملا على علة توهن الانقياد) » [19] .
ويقرر في بيانه لفضائل الصبر أنه يورث صاحبه درجة الإمامة في الدين، استنادا إلى ما سمعه من شيخه أنه كان يقول: «بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين» [20] .
وفي بيانه – في منـزلة (الأدب) – لصور الأدب مع الله سبحانه في الصلاة يستشهـد بعـدة أقـوال سمعها من شيخ الإسلام، حيث يقول: «سمعـت شيـخ الإسـلام ابن تيمية – رحمـه الله – يقـول: (أمر الله بقدر زائد على ستر العورة في الصلاة، وهو أخذ الزينة، فقال [ ص: 118 ] تعالى: ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) (الأعراف:31) ، فعلق الأمر بأخذ الزينة، لا بستر العورة، إيذانا بأن العبد ينبغي له أن يلبس أزين ثيابه وأجملها في الصلاة) ...، ومن الأدب: نهي النبي صلى الله عليه وسلم المصلي أن يرفع بصره إلى السماء [21] ، فسمعت شيخ الإسلام، قدس الله روحه، يقول: «هذا من كمال أدب الصـلاة أن يقف العبد بين يدي ربه مطرقا، خافضا طرفه إلى الأرض، ولا يرفع بصره إلى فوق»..، وسمعته يقول – في نهيه صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن في الركوع والسجـود [22] -: «إن القرآن هو أشرف الكلام، وهو كلام الله، وحالتا الركوع والسجود حالتا ذل وانخفاض من العبد، فمن الأدب مع كلام الله أن لا يقرأ في هاتين الحالتين، ويكون حال القيام والانتصاب أولى به» [23] . [ ص: 119 ] ويقرر في بيانه لفوائد الذكر: أن الذكر يورث حياة القلب، ويستشهد على ذلك بما سمعه من شيخ الإسلام أنه كان يقول: « الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء ؟» [24] .
كما يقرر أن المداومة على الذكر تورث القوة للذاكر، ويستشهد على ذلك بأحوال شيخه من حيث القوة في المشي والكلام والكتابة والإقدام بسبب مداومته على ذكر الله، حيث يقول: «إن الذكر يعطي الذاكر قوة، حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم يطق فعله بدونه، وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في مشيته وكلامه وإقدامه وكتابته أمرا عجيبا، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة وأكثر، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمرا عظيما» [25] .
ويستشهد في تقريره للضـابط الثاني من ضـوابط قيم السلوك - وهو العبودية الخالصة لله تعالى - بقول شيخه: «من أراد السعادة الأبدية فليزم عتبة العبودية» [26] .
كما يستشهد في معرض حديثه عن الضابط الخامس – وهو تعلم العلم الشرعي – بقول شيخه: «من فارق الدليل ضل السبيل، ولا دليل إلا بما جاء به الرسول» [27] . [ ص: 120 ]