3- الأشياء:
واستكمالا لمرحلة مجتمعات الأفراد والشخوص، بدأ الناس يبتعدون عن القضايا المهمة والمسائل الجادة والمحورية، ويتعلقون ويتمسكون بالأشياء، التي أصبحت محور ولائهم، فهم يعبدون الأموال، لذلك يتركز في هذه المرحلة اهتمام الناس على الشكليات والتفاهات والشهوات الظاهرة والخفية، وتنحصر هموم الناس ومشكلاتهم في مساحة صغيرة تنحصر ما بين المعدة والفرج، وتبرز ثقافة الترف، والاستهلاك، والأنانية، وحب الذات، ويتحاسد الناس ويتباغضون ويتظالمون ويتسابقون ويتصارعون في مجال امتلاك متاع الدنيا من النساء والبنين والأموال والخيل والأنعام والحرث: ( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين ... ) (آل عمران:14)، فينتشر الظلم والفساد بمختلف صورهما وأشكالهما.
وهذه مرحلة أخرى عاشها، وما زال يعيشها المجتمع المسلم، بعدما تراجع الوازع الديني في النفوس، وتعلق الناس بالدنيا، وتمزقت شبكة العلاقات الاجتماعية، وأصبحت الحياة في هذه المجتمعات ليست أكثر من سلسلة من الأزمات والعقد والفتن، التي يتلو بعضها بعضا والتي تجهض كل جهد جاد ومخلص، فكان أن اجتمع على الأمة حالة ضعفها الداخلية هذه، إضافة لتكالب أعدائها من الخارج من خلال الغزو العسكري تارة، والغزو الفكري للعقـول قبـل الأوطـان تارة أخـرى، فتحققـت عندئذ مقـولة من لا ينطـق عن الهوى، عليه أفضل الصلاة والسلام: ( يوشك الأمم أن تداعى عليكم [ ص: 134 ]
كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل : يا رسول الله وما الوهن ؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت ) [1] .
إن المجتمـع بعلاقاته الاجتماعية، سواء أكانت متمحورة حول الأفكار، أو الأشخاص، أو الأشياء، هو من يفرض لغته ومنطقه على الأفراد والجـمـاعـات فيـه، مـن خـلال العـرف والتقـالـيـد، والـفـرز الاجـتـمـاعـي، أو الاقتصادي أو الفكري المسبق، فالفرد في محيطه الاجتماعي يواجه تحديات الأضداد، كالقوة والضعف، والغنى والفقر، والجهل والمعرفة، إلى جانب تحدي التمييز العنصري بسبب اللون أو الجنس أو الدين، وتتباين استجابة البشر لهذه التحديات، وتختلف باختلاف البشر أنفسهم [2] ، وتحدي الأضداد واستجابات الأفراد هي الأرضية الخصبة، التي قد ينمو فيها الظلم ويتـرعرع، في حال غياب الوازع الديني وتقوى الله تعالى.
إن تمركز علاقات الأفراد وتمحورها في المجتمعات الإسلامية المعاصرة حول الأشخاص والأشياء، والابتعاد عن فكرة "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، قد حولها إلى مجتمعات ظلم وحقد وكراهية، واقع الحياة فيها بائس ومهين للكرامة [ ص: 135 ]
الإنسانية، ففي هذه المجتمعات يتوقع الفرد أن تعتدي عليه السلطة في كل لحظة، ودون أي سبب، ويعتبر مجرما من ينتقد الظلمة والظالمين، ويضطهد من يقول كلمة الحق، وينصر من يقول الباطل، وتزيف المبادئ وتزور الحقائق، ويجرم المواطن دون محاكمة، وإذا حوكم ظلم، ويتاح فيها للجبان ما لا يتاح للشجاع، ويملك الجاهل ما لا يملك العالم، ويبارك فيها الاستغلال، ويغيب العدل بين الناس، ويصبح الفساد هو أساس كل علاقة أو معاملة [3] .