الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              - الظلم والبنية الاجتماعية الممزقة:

              يتسم التركيب الاجتماعي في مجتمعات الظلم بالتسلط والاستبداد في كل مستويات الهرم الاجتماعي، والتسلط والاستبداد هما نتاج هيمنة السلطة الأبوية، ليس على مستوى الأسرة فحسب، بل أيضا على مستوى المؤسسات التربوية والمجتمعية جميعها، فالمجتمع الأبوي ما هو إلا مجتمع ذو علاقات رأسية تراتبية بحكم بنائه الاجتماعي الهرمي، فالأب يسيطر على أفراد الأسرة، وإرادته في الأسرة مطلقة ومبنية على الطاعة والقمع، وما ينطبق على الأب مع أفراد أسرته، ينطبق على المعلم مع طلبته، ورب العمل مع موظفيه، والحاكم مع المحكومين، وهكذا تتمكن من نفوس الكثرة المستضعفين النزعة "المازوشية"، بينما تتحكم في نفوس القلة الظالمة النزعة "السادية"، وتجتمع النزعتان في شخصية الفرد في مجتمعات الظلم، نظرا لازدواجية الدور لكل فرد من أفراد [ ص: 136 ]

              هذه المجتمعات، حيث يؤدي الفرد الواحد دور السيد على من دونه وفي نفس الوقت التابع لمن فوقه.

              والنزعة "المازوشية" هي حالة من التخلي عن استقلالية (الذات) لصالح (الآخر) القوي، للحصول على الدعم والقوة، التي تفتقد إليها (الذات)، وهذه الحالة تتسم بالرغبة في الخضوع والهيمنة، وهذه الرغبات، توجد عند أفراد المجتمع بدرجات متفاوتة، ويغلب عليها مشاعر العجز والدونية الناجمة عن تبخيس النفس، والتقليل من أهميتها، وتعويض ذلك بالخضوع للآخر القوي؛ وأيضا تتسم هذه الحالة في نفس الوقت برغبات مناقضة تماما للرغبات "المازوشية"، ألا وهي الميول السادية، التي تأخذ صورة الاعتماد المطلق على (الآخر) أحيانا، وصورة استغلاله واستنزافه وسرقته في أحيان أخرى، وصورة تعذيب الآخر والتسبب في معاناة ذهنية له [1] . والشخصية التسلطية بميولها "المازوشية" والسادية المتناقضة، مؤهلة لتأدية دور مزدوج في المجتمع، هو دور السيد والتابع، أو الظالم والمظلوم في نفس الوقت.

              لذلك، فإن التنظيم الاجتماعي على مستوى المؤسسات المختلفة، وعلى مستوى المجتمع في مجتمعات الظلم مشوه بل وممزق أحيانا؛ لأن أنماط التفكير والعمل السائدة فيه مشوشة، وهذا في واقع الأمر نتاج عقود من الاستغلال والاستبداد، التي همش وجمد فيها جوهر الدين، وعزل عن الحياة، خدمة لمصالح [ ص: 137 ]

              الفئات المتنفذة الظالمة، لذلك فليس غريبا أن نجد أن المعرفة في كثير من المجتمعـات الإسـلامية المعـاصرة تتسـم أحيانا بفهـم سطحي وساذج للدين، وفي أحيان أخرى تقوم هذه المعرفة على جهل أو فهم خاطئ لكثير من تعاليم الدين السمحة في مجالات التربية والاجتماع والسياسة والإدارة وجوانب الحياة المختلفة الأخرى، هذا إلى جانب تعطيل دور العلم والعقل وعزلهما عن الحياة عبر عقود من الذل والهوان والاستعباد، خدمة لمصالح الظلمة المتنفذين في الداخل، وخدمة للطامعين من أعداء الأمة والمتربصين بها من الخارج.

              فالعلم والعقل في الإسلام لا تقل أهميتها عن دور التعاليم الدينية نفسها، فهما من القواعد الأساسية، التي بني عليها الشرع الحنيف، وأمر بتوظيفها لخدمة مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع وفق القواعد والأصول الشرعية.

              الإنسان في مجتمعات الظلم غريب عن نفسه وعن الآخرين، ففرص المشاركة محدودة، والقدرة على التغيير معطلة، ولا مخارج إلا بالخضوع والاستسلام القسريين، أو الهرب من هذا الواقع المر، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى إصابة المجتمع بما يعرف بأزمة المجتمع المدني، ممثلة بفقدان المجتمع لقدرته في السيطرة على مصيره وعلى موارده.. واستشراء الظلم وبقية الأمراض الاجتماعية فيه، يعمل على تداعيه وانهياره من الداخل، وأخيرا هيمنة السلطة عليه بدلا من أن يحدث العكس [2] ، فتتجذر علاقة القوي والضعيف، فيزداد الظلم ويستفحل ويتسارع التقهقر والانحدار الحضاري . [ ص: 138 ]

              وفي مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة، ونظرا لتعطيل الدين، وعزل العقل، وتبخيس العلم، فإن الأنظمة والمؤسسات لا تكتفي بعدم إشراك العامة في مختلف النشاطات الإنسانية، وبالذات في عملية صنع القرار، بل تجهض دورهم في تحسين مستويات معيشتهم، وتغتصب حقوقهم المدنية، وتحولهم إلى عجزة ومغلوبين على أمرهم، منشغلين عن قضاياهم الاجتماعية الكبرى بأمور المعيشة والسعي المتواصل لتأمين حاجاتهم اليومية، لذلك تعيش العامة في مثل هذه المجتمعات على هامش الحياة، بعيدا عن صميم الأحداث، تتملكها حالات من الحذر والقلق والخوف من الفشل والتعرض للمخاطر، حالة من الخوف المزمن من الماضي والحاضر والمستقبل، إن هامشية الوجود للعامة يرافقها سطحية في التفكير والاهتمامات، فيشغل اللهو والترف والشهوات والأشياء وجودها، فهي تعمل لكن ليس لنفسها، تفكر ولكن ليس في قضاياها الكبرى، تشعر لكن ليس بوجودها، ولا شك أن العامة في مجتمعات الظلم والـكراهية هـذه، تنفعل مع الواقـع، لكنها لا تستـطيع صنعه أو تغييره، فهي لا تصنع الظروف، وإنما تشاهد حدوثها وتتابعها [3] .

              أما القلة المسيطرة فهي نخب لا تعمل للمجتمع، ولا من أجله، متحالفة مع الخارج القوي خدمة لمصالحها، وبالتالي فهي فئات مستلبة ثقافيا تعمل بقيم وافدة وغريبة عن الثقافة العربية الإسلامية، وتحاول فرض هذه القيم الغربية [ ص: 139 ] على العامة، فيتولد الصراع بين ما هو أصيل ومرغوب، وما هو غريب ومرفوض، الأمر الذي يعمل على تشتيت جهود الأفراد والمجموع في هذه المجتمعات، ويعطل نموها وتقدمها، ويفضي في النهاية إلى تفكيكها [4] .

              لا شك أن الظلم ما هو إلا علاقة بين طرفين، أحدهما يملك أسباب القوة، والآخر لا يملكها، ونظرا لعدم التوازن والتساوي بين طرفي العلاقة، وفي ظل غياب الوازع الديني والضوابط الأخلاقية عند الطرف الذي يملك أسباب القوة، فإن هذه العلاقة تدخل ضمن العلاقات القهرية، أي التي يمارس فيها القهر والغصب، سواء أكان ذلك باستخدام القوة بصورة مباشرة (القوة الخشنة)، أو التلويح بـها وتهـديد الطرف الآخر باستخدامها أي الدبلوماسية أو (القوة الناعمة). [ ص: 140 ]

              التالي السابق


              الخدمات العلمية