الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              - طرف قوي:

              وهـذا الطرف يمـلك أحـد أسبـاب القـوة أو أكـثر، ويعرف بالظـلوم أو بالسيد، والظلوم هو سيد على من دونه رتبة في الهرم الاجتماعي، ولكنه في الوقت نفسه عبد وتابع لمن هو أعلى منه رتبة، وهذا الدور المزدوج يخلق عنـد الأسياد أو الظلمـة حـالة من الانفصـام واللاتوازن، لذلك نجـد الظلوم أو السيد في هذه المجتمعات يعرف الحق ويحيد عنه خدمة لمصالحه واتباعا لهواه: ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ) (النمل:14)، والظلمة يحبون العلو في الأرض، وهذا مرتبط بالفساد وهو أصل الظلم، ورحم الله الزهاوي حين قال:


              وما هذه في الدهر أول مرة رأى الحق فيها الظالمون فأنكروا



              يعيش الظلوم حالة من تضخيم الذات أو الشعور "بالسوبرية"، فهو يرى نفسـه مركز الكون، لا يخطـئ، وإن حصل فالأتباع هـم السبب، لا يرى [ ص: 142 ] إلا نفسه في مرآة الحياة، ولا يفكر إلا في ذاته، يعاني الاضطراب ويتملكه إحساس دائم بالخوف، والريبة من الناس، ومن الظروف: ( أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون ) (النور:50).

              تجسد شخصية الظلوم أو السيد، أيا كانت رتبته، أو موقعه على سلم الهرم الاجتماعي شخصية فرعون، الذي يصول ويجول، يتجبر ويستكبر، ويتكبر، ويرى نفسه فوق العباد بحكم امتلاكه لبعض أسباب القوة المادية: ( إن فرعون علا في الأرض ) (القصص:4).

              يتمتع الظلوم غالبا بشخصية نرجسية عدوانية، تبحث دائما عن أسباب القوة، التي تمكنها من السيطرة على الناس والتحكم بهم، وهذه الشخصية تتسم بالأنانية، وهي شخصية غير أمينة، وليست أهلا للثقة ولا عهد لها، وتطبق في كل مسلكياتها مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، وبالتالي فهي جاهزة دائما لممارسة أي فعل غير أخلاقي، وغير إنساني في سبيل تحقيق مصالحها، التي تحتل سلم أولوياتها، فهي شخصية لا تهمها مصالح الآخرين ولا المصلحة العامة، وتمقت كل أشكال وصور الفضيلة والقيم والأخلاق، الرغبة والشهوة في مثل هذه الشخصية فوق الخوف، وهي باختصار شخصية بهيمية [1] .

              يستحسن الظلوم العدل من غيره، ويتحسس من الظلم، وبالتالي فهو يحب لنفسه ما لا يحب لغيره، يؤرقه نجاح الآخرين وصعودهم سلم الهرم [ ص: 143 ] الاجتماعي، لا يعرف المنافسة الشريفة، ويلجأ إلى كل الوسائل اللاأخلاقية في التعاطي مع أتباعه وخصومه ومنافسيه، لا يعنيه من أتباعه سوى الولاء المطلق لشخصه وأفكاره، لا يؤمن بالولاء للأوطان، أو للقيم والمبادئ السامية، يصنف أتباعه حسب درجات خضوعهم له، ويعتبر أتباعه جزءا من أملاكه، يتصرف بهم كيفما شاء ومتى شاء.. ويحقق الظلوم ولاء أتباعه له من خلال إفسادهم بمنحهم الأموال، أو الوظائف والامتيازات، التي لا يستحقونها

              [2] .

              يستخدم الظلوم لغة الكذب والتضليل والخداع في مخاطبة أتباعه [3] ، ويميل دائما إلى توسيع دائرة المنافقين والمصفقين حوله، ولكي يحمي نفسه يستخدم دائما أسافل الناس ممن تعجبهم وتجذبهم مظاهر العلو والمفاخرة [4] .

              يتعاطـى الظلـوم مـع أتباعه بنظرة دونية بائسة، يحرص على تفرقهم أكثر من وحدتهم، ويغرس الفرقة والخلاف بينهم ليشتت قواهم، ويسوسهم كما يريد: ( وجعل أهلها شيعا ) (القصص:4).

              يمارس الظلوم مع أتباعه كل أشكال الاستضعاف والاستعباد، وهم بحكم ضعفهم يستمرئون ذلك من أجل العيش بسلام، لذلك يطيعون جميع أوامره [ ص: 144 ] وينفذونها: ( فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين ) (الزخرف:54).

              يفرض الظلوم على أتباعه أن ينظروا للأشياء والكائنات في الكون بمنظاره فقط: ( ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) (غافر:29)، لذلك فهو يقود نفسه وأتباعه بغروره وظلمه وجهله إلى الفساد والضلال: ( وأضل فرعون قومه وما هدى ) (طه:79)،: ( وقد خاب من حمل ظلما ) (طه:111)، ومن ثم يفضي بهم ظلمهم إلى سخط الله تعالى وعذابه: ( فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين ) (الزخرف:55)، ليجعلهم الله تعالى عبرة ومثلا لكل ظالم وطاغية على مر الزمان: ( فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين ) (الزخرف:56).

              ويحسب الظلوم رغم ظلمه، أنه يحسن صنعا للناس، مع أن سعيه قد ضل في الحياة الدنيا والآخرة، ورحم الله تعالى من قال:


              قال الظالمون وقد تمادوا     بظلم الناس غايتنا السلام



              هؤلاء هم الظلمة، عبيد الدنيا وطلابها، بظلمهم وفسادهم وفجورهم الدنيوي، سيحرمون من نعيم الآخرة كما قال عز من قائل: ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ) (القصص:83). [ ص: 145 ]

              التالي السابق


              الخدمات العلمية