الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              - تحريم الظلم:

              يحرم الإسلام الظلم بكل صوره وأشكاله، ويدين أسبابه وآلياته، ويحذر من تداعياته وآثاره، ويأبى على المسلم أن يكون ظالما أو عونا لظالم، وحرمة الظلم تؤكدها جميع مصادر التشريع في الإسلام من قرآن كريم وسنة وإجماع وقياس، ولا يقف التحريم على ظلم المسلم بل يتعداه إلى تحريم ظلم الكافر والذمي والمعاهد، يروي أنس بن مالك، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ ص: 63 ] ( اتقوا دعوة المظلوم، وإن كان كافرا، فإنه ليس دونها حجاب ) [1] ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ألا من ظلم معاهدا، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة ) [2] .

              وتكمن حكمة تحريم الظلم في مدى خطورته على كل أشكال الحياة وعلى كل الكائنات من بشر وحيوانات ونباتات، يقول أبو هريرة، رضي الله تعـالى عنـه: "إن الحبـارى لتمـوت في وكرها من ظلـم الظـالم" [3] ، ويقـول ابن القيم، رحمه الله: "سبحان الله! كم بكت في تنعم الظالم عين أرملة واحترقت كبد يتيم وجرت دمعة مسكين: ( كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون ) (المرسلات:46)، ما ابيض لون رغيفهم حتى اسود لون ضعيفهم، وما سمنت أجسامهم حتى نحلت أجسام من استأثروا عليه" [4] .

              فالباغي الظالـم ينتـقـم الله منـه في الدنيا والآخرة، فإن البغي مصرعه، قال ابن مسعود: "لو بغى جبل على جبل، لجعل الله الباغي منهما دكا"، ومن حكمة الشعر:


              قضى الله أن البغي يصرع أهلـه وأن على الباغي تدور الدوائـر

              [ ص: 64 ]

              وورد في الحديث: ( ما من ذنب أحرى أن يعجل الله تبارك وتعالى العقوبة لصاحبه في الدنيا، مع ما يدخر له في الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم ) [5] .

              فالظلم يخلق الفوضى في المجتمع، ويزرع الحقد والبغضاء، ويولد الحسد والمشاحنات بين الناس، يقول الشاعر نعمان ثابت

              [6] :


              أوغر الظالمون منا الجنانا     أزهقوا النفس واستباحوا حمانا



              وقيل أيضا [7] :


              فلا تأمنن الدهر حرا ظلمته     فـما ليـل حـر إن ظلـمت بـنائـم
              لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا     فالظلم مصدره يفضي إلى الندم
              تنام عيناك والمظلوم منـتبه     يـدعو عليـك وعيـن الله لـم تـنم



              والظلم يفضي إلى خراب ودمار مقدرات الأفراد والمجتمعات، ويعزز من انتشار الجشع والاحتكار في المجتمع، ويعمل على انتشار قيم اللصوصية وشريعة الغاب، ويكرس ثقافة الخوف والقرصنة والكذب والتدليس، فتغيب المروءة لدرجة يصاب فيها الأفراد بفوبيا الخوف الدائم على أنفسهم وأسرهم وحقوقهم وأملاكهم، سواء أكانوا ظلمة أم مظلومين. [ ص: 65 ]

              والظلم سلوك لئيم، يعرقل تقدم المجتمعات، ويحول دون رقيها، بل ويدفعها إلى ظلمات التخلف والانحطاط،

              وقد روي بأن الرشيد سجن أبا العتاهية، فكتب هذا على جدار السجن [8] :


              أما والله إن الظلم لؤم     وما زال المسيء هو الظلوم
              إلى ديان يوم الدين نمضي     وعند الله يجتمع الخصوم
              لأمر ما تصرفت الليالي     وأمر ما توليت النجوم
              ستعلم في الحساب إذا التقينـا     غدا عند الإله من الملوم
              سينقطع التروح عـن أناس     من الدنيا وتنقطع الغموم
              تلوم على السفاه وأنت     فيه أجل سفاهة ممن تلوم
              وتلتمس الصلاح بغير حلم     وإن الصالحين لهم حلـوم
              تنام ولم تنم عنك المنايـا     تنبه للمنية يا نؤوم
              تموت غدا وأنت قرير عين     من الغفلات في لحج تعوم
              لهوت عن الفناء وأنت تفني     وما حي على الدنيا يـدوم
              تروم الخلد في دار المنايـا     وكم قد رام غيرك ما تروم
              سل الأيام عن أمم تقضـت     ستخبرك المعالم والرسوم
              وما تنفك من زمن عقـور     بقلبك من مخالبه كلـوم
              إذا ما قلت قد زجيت غما     فمر تشعبت منه غمـوم
              وليس يذل بالإنصاف حي     وليس يعز بالغشم الغشوم
              وللمعتاد ما يجري عليـه     وللعـادات يا هـذا لـزوم

              [ ص: 66 ]

              والظلم خطير على الأملاك والعمران، فهو كما يقول ابن خلدون "مؤذن بخراب العمران" [9] ، لأنه يضر بالمقاصد الخمس، التي أمر الشرع بضرورة المحافظة عليها وهي:

              - الدين؛ النفس؛ العقل؛ النسل؛ المال.

              وما هذه المقاصد إلا مقومات الحياة الإنسانية في كل زمان ومكان، فهدمها بالظلم يعني خراب المجتمعات ودمار عمرانها [10] .

              وورد على لسـان أحـد رجـال الدين الفرس قوله: "إن الـملك لا يتم عزه إلا بالشريعة، ولا قوام للشريعة إلا بالملك، ولا عز للملك إلا بالرجال، ولا قوام للرجال إلا بالمال، ولا سبيل إلى المال إلا بالعمارة والصناعة والزراعة وما شابه ذلك من أوجه التكسب، ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل، فإذا زال العدل انهارت العمـارة وتوقـف الإنتاج فافتـقر النـاس، واستـمرت سلسلة التساقط حتى ينهار الـمـلك" [11] .

              والمجتمع عندما يحيد ويبتعد عن قيم العدل والشورى والحرية، ويجنح إلى الظلم والاستبداد والعبودية، فإن ذلك مدعاة لسقوطه وانهياره وزواله، فقد كان [ ص: 67 ] الظلم سبب هلاك وزوال كثير من المجتمعات والأمم الغابرة، وقد أشار الكتاب العزيز إلى ذلك في مواضع عدة منها [12] :

              ( ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين ) (يونس:13)، ( وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا ) (الكهف:59)، ( وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ) (القصص:59).

              ويقول الشاعر:


              إذا جار الوزير وكاتباه     وقاضي الأرض أجحف في القضاء
              فويل ثم ويل ثم ويـل     لقاضي الأرض من قاضي السـماء



              ويكون الظلم مضاعفا عندما تطبق القوانين والحدود على الضعفاء والدهماء من الناس دون السادة وعلية القوم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ) [13] .

              والظلم مجلبة لعذاب الله تعالى وعقابه: ( فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون ) (النمل:52). [ ص: 68 ]

              وهو ينزع البركة من كل شيء في المجتمع، سواء أكانت أموالا أو أملاكا أو نباتات أو حيوانات، يقول وهب ابن منبه: "إذا هم الوالي بالجور، أو عمل به، أدخل الله النقص في أهل مملكته في الأسواق والزروع والضروع وكل شيء، وإذا هم الوالي بالخير والعدل، أو عمل به، أدخل الله البركة في أهل مملكته كذلك" [14] ، وقيل "عدل السلطان أنفع من خصب الزمان" [15] .

              قال مجاهد: "إذا ولي الظالم سعى بالظلم والفساد، فيحبس الله بذلك القطر، فيهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد، ثم قرأ: ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ) (الروم:41)".

              تعود عاقبة الظلم على صاحبه، والظالم يدفع ثمن أفعاله غاليا في الدنيا قبل الآخرة، قال تعالى: ( ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون ) (السجدة:21)، ويقول أيضا: ( وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين ) (الأنبياء:11).

              وقيل: "الظالم سيف الله، ينتقم به، ثم ينتقم منه" [16] .

              وقيل: "يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم" [17] . [ ص: 69 ]

              ويقول الإمام الشافعي:


              بلوت بني الدنيا فلم أر فيـهم     سوى من غدا والبخل ملء إهابه
              فجردت من غمد القناعة صارمـا     قطعت رجائي منهم بذبابـة
              فلا ذا يراني واقفا في طريقـه     ولا ذا يراني قاعدا عند بابـه
              غني بلا مال عن الناس كلهم     وليس الغني إلا عن الشيء لا بـه
              اذا ما الظالم استحسن الظلم     مذهبا ولج عتوا في قبيح اكتسابـه
              فكلها إلى صرف الليالي فإنها     ستدعي له ما لم يكن في حسابـه
              فكم رأينا ظالما متمـردا     يرى النجم تحت ظل ركابـه
              فعما قليل وهو في غفلاتـه     أناخت صروف الحادثات ببابـه
              فأصبح لا مال ولا جاه يرتجـى     ولا حسنات تلتقي في كتابـه
              وجوزي بالأمر الذي كان فاعلا     وصب عليه سوط عذابـه



              وقد اشتكى واستصعب شاعر الجاهلية طرفة بن العبد ظلم الأهل والقربى فقال [18] :


              وظلم ذوي القربى أشـد مضاضـة     على النفس من وقع الحسام المهند
              أرى الموت أعداد النفوس ولا أرى     بعيدا غدا ما أقـرب اليـوم من غد
              ستبدي لك الأيام ما كنـت جاهلا     ويأتـيـك بالأخبـار مـن لـم تـزود

              [ ص: 70 ]

              لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكثر من الاستعاذة بالله تعالى من الظلم [19] ، فعن أبي هريرة، رضى الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو ويقول: ( اللهم إني أعوذ بك من الفقر، والقلة، والذلة، وأعوذ بك من أن أظلم، أو أظلم ) [20] ، وقد أمر الرسول، عليه أفضل الصلاة والسلام، بالاستعاذة من الظلم كلما خرج الإنسان من بيته، فعن أم المؤمنين أم سلمة، رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من بيته قال: ( بسم الله، توكلت على الله، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي ) [21] .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية