الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              معلومات الكتاب

              الظلم وانعكاساته على الإنسانية (رؤية شرعية)

              الأستاذ الدكتور / عثمان محمد غنيم

              - مجتمعات الظلم:

              تتميز مجتمعات الظـلم بشيوع علاقة التبعية فيها، مثل: الظلوم والجهول، أو السيد والتابع بين الأفراد، وهذا النمط من العلاقات هو علاقات أبوية تتسم بالتبعية والتسلط، وتأخذ صورا وأشكالا مختلفة ضمن شبكة العلاقات الاجتماعية على مستوى المجتمع الواحد، حيث تبدأ الأبوية على مستوى الأسرة، وترسخ هذه الأبوية السلطة الرسمية، أو الحكومات على مـسـتـوى المجتمع، وذلك من أجل المحـافـظـة على امتـيـازات السادة أو "الباترونات" [1] . [ ص: 152 ]

              وهكذا تتشكل مجتمعات الظلم والكراهية، التي تتسم بما يلي:

              1- يعمل تجذر علاقة الظلوم والجهول في النسيج الاجتماعي لمجتمعات الظلم على تشكيل نمط من العلاقات الاجتماعية الرأسية التسلطية في المجتمع، ووفق هذه العلاقات يخضع الضعيف للقوي، والفقير للغني، والموظف للمدير، والطالب للمعلم، والزوجة للزوج، والابن للأب، ومن لا يملك لمن يملك...الخ، وبالتـالي فـإن الفرد في مثل هذه المجتمعات لا يملك خيارات أو بدائل، فهو إمـا أن يـكون ظـالما أو مظلـوما، قـاهـرا أو مقهـورا، سيـدا أو عبـدا، تابعـا أو متبوعا، قامعا أو مقموعا..الخ.

              2- تقوم علاقة الظلوم والجهول في مجتمعات الظلم بإخضاع عقلية الفرد لقيمها، وتضلله إلى أعمق المستويات، بحيث يصبح هم الفرد في حياته الاجتماعية يتمثل في تأمين مصالحه الخاصة، والمحافظة على سلامته، وهذا يدفعـه إلى توخي الحـذر دائما، والابتعاد عن أي شـكل من أشكال المغامرة أو المخاطرة، إضافة إلى مواجهة الحياة بأسلوب دفاعي، وكظم وكبت كل أشكال معاناتها، وهذا الوضع يؤدي إلى خلق حالة "سيكولوجية" عند الفرد والمجموع، يتجذر فيها الخضوع بدلا من العزة والكرامة، والخداع والمكر بدلا من الشجاعة والمواجهة، والنكوص والتقهقر بدلا من المبادرة.

              3- لا يستطيـع النـاس في مجتمعـات الظـلـم والكراهية مواجهة القوي أو المسيطر أو من هـو أعلى منهم رتبة في الهرم الاجتماعي بصورة مباشرة، وإنما يلجأون إلى الحيل والخداع والتلون والنفاق لدرء خطره، إنهم يواجهون مباشرة [ ص: 153 ] فقط من هم أضعف منهم، أو أدنى منهم رتبة في الهرم الاجتماعي وبذلك تتكرس وتسود علاقة الظلوم والجهول أو السيد والتابع في المجتمع، بحيث يخضع الأول الثاني في الهرم الاجتماعي، وفي تراتبية محكمة من أعلى إلى أسفل [2] .

              4- يؤدي تكريس علاقات التبعية في المجتمع، إلى جعل الظلم والقهر سمة مميزة للحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية في المجتمع نفسه، ولا شك أن شخصية الإنسان، في أغلب المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة، تتشكل وفق هذه الثنائية البائسة، حيث يتدحرج الأفراد إلى حيث سـلـطـة الأب، أو الطبيـعـة، أو السـيـد، أو الإقـطـاعي، أو صاحب العمل، أو المعلم، أو الحاكم... الخ [3] .

              5- لا توجد وجهات نظر في مجتمعات الظلم والكراهية، وإنما هناك وجهة نظر الظلوم أو السيد، وهي الصحيحة دائما، ولا يجوز أن يمتنع أي تابع عن خدمة سيده، ولا يجوز أن يرفض أي تابع أن يكون فاسدا، ويجب على التـابـع أن يسـخر كل مهـاراته لخـدمـة سيـده والترويج له، والإشادة به في كل محفـل، وهـذا مخـالـف لشـرع الله تعـالى، فالإنسـان السـوي، كما قيل، إذا لـم يستـطع قـول الحـق أو نصـرتـه، فـإنه لا يصفـق للبـاطـل، يقول يوسف ابن أسباط: "من دعا لظالم بالبقاء، فقد أحب أن يعصى الله في أرضه" [4] . [ ص: 154 ]

              6- العنف والتطرف في مجتمعات الظلم هما نتاج عنف الواقع وتطرفه، فهما ليسا من العقل أو من النص، كما يدعي كثير من الباحثين وبالذات الغربيين، فالطبيعة الإنسانية بما تشتمل عليه من ضعف وأهواء وشهوات ورغبات وصراع المصالح بين البشر هما السبب في ذلك، فالقوي يبدأ بالعنف، والضعيف يقابله بالعنف أيضا، نظرا لغياب الحوار بينهما، فعنف القوي فعل، وعنف الضعيف رد فعل على ذلك، فإذا ما انتهى الفعل انعدم رد الفعل، وبالتالي فإن تغيير الواقع المتطرف هو السبيل الوحيد للتغلب على ظاهرتي العنف والتـطرف، وهذا لا يتأتى إلا من خلال رد الحقوق لأصحابها، فالغني لا بد أن يقترب من الفقير بإعطائه حقه الشرعي والأخذ بيده لإنقاذه من ذل الحاجة والمسألة، والظالم لا بد أن يعيد للمظلوم حقوقه، التي سلبها منه، والقاهر يجب أن يتوقف عن استضعاف الناس واستعبادهم وأن يرد عليهم حقوقهم، وهذا في الواقع الإسلامي المعاصر لا يمكن أن يحدث إلا من خلال تفعيل مبدأ الحسبة، الذي يتمثل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل جوانب الحياة، بحيث يصبح هذا المبدأ جزءا لا يتجزأ من ضمير وسلوك الفرد والمجموع، فبهذا المبدأ تفوق وسما المجتمع الإسلامي الأول، وقدم خير أمة أخرجت للناس؛ وباستعادة هذا "الإنزيم" ليتدفق من جديد في شرايين المجتمعـات الإسلامية المعاصرة، تستعيد الأمة عافيتها ودورها التاريخي والإنساني والحضاري [5] . [ ص: 155 ]

              7- تتسم اللغة الدارجة والمتداولة في مجتمعات الظلم بنكهة خاصة ومميزة، تعكس واقع هذه المجتمعات، بما تشتمل عليه هذه اللغة من الألفاظ والأسماء والمصطلحات، التي تدور في فلك مفاهيم القوة والضعف، وما يرتبط بهما من قيم واتجاهات كما هو الحال في: الفهلوي، والمفتري، والنذل، وقليل الدين، وعديم الضمير، والملعون، المهووس، والأراجوز، والمتعوس، ومساح الأعتاب، والكذاب، والهكاص، والأوباش، والهباش، والهلاس، والرمة، والتوهان، والخواجة، والدرويش، والخيخة، والدلدول، والطرطور، والمهزوز، والمدسوس، والفبركة، والهمبكة، والخسيس، والجبان...إلخ .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية