تفسير سورة الحج
هذه السورة مكية إلا ثلاث آيات، قوله تعالى: هذان خصمان [الحج: 19] إلى تمام ثلاث آيات، قاله ابن عباس ، وروي أيضا عن ومجاهد رضي الله عنهما أنهن أربع آيات، إلى قوله تعالى: ابن عباس عذاب الحريق ، وقال : هي مدنية، وقال الضحاك : سورة الحج مدنية إلا أربع آيات، من قوله تعالى: قتادة وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ، إلى قوله: عذاب يوم عقيم ، فهن مكيات، وعد ما نزل النقاش بالمدينة عشر آيات، وقال الجمهور: السورة مختلطة، منها مكي ومنها مدني، وهذا هو الأصح -والله أعلم- لأن الآيات تقتضي ذلك، وروي عن أنه قال: أنس بن مالك آدم أخرج بعث النار، فيخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، قال: فاغتم الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبشروا، فمنكم رجل ومن يأجوج ومأجوج ألف رجل ... الحديث. نزل أول السورة في السفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى بها فاجتمع الناس إليه، فقال: أتدرون أي يوم هذا؟ فبهتوا، فقال: يوم يقول الله: يا
[ ص: 211 ] قوله عز وجل:
يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد
صدر الآية تحذير لجميع العالم، ثم أوجب الخبر وأكده بأمر زلزلة القيامة، وهي إحدى شرائطها، سماها شيئا؛ لأنها حاصلة متيقن وقوعها يستسهل لذلك أن تسمى شيئا وهي معدومة; إذ اليقين بها يشبهها بالموجودات، وأما على المآل، أي هي - إذا وقعت - شيء عظيم، فكأنه لم يطلق الاسم الآن، بل المعنى: إنها إذا كانت فهي حينئذ شيء عظيم.
و "الزلزلة": التحريك العظيم، وذلك مع نفخة الفزع، ومع نفخة الصعق حسبما تضمن حديث من ثلاث نفخات. ومن لفظ الزلزلة قول الشاعر: أبي هريرة
يعرف الجاهل المضلل أن الدهـ ـر فيه النكراء والزلزال
واختلف المفسرون في "الزلزلة" المذكورة، هل هي في الدنيا على القوم الذين تقوم عليهم القيامة، أم هي في يوم القيامة على جميع العالم؟ فقال الجمهور: هي في الدنيا، والضمير في "ترونها" عائد على الزلزلة، وقوى قولهم أن الرضاع والحمل إنما هو في الدنيا، وقالت فرقة: "الزلزلة" في يوم القيامة، واحتجت بحديث المذكور آنفا; إذ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية ثم قال: أنس لآدم : أخرج بعث النار . إنه اليوم الذي يقول فيه
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وهذا الحديث لا حجة فيه; لأنه يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الآية المتضمنة ابتداء أمر الساعة، ثم قصد في تذكيره وتخويفه إلى فصل من فصول يوم القيامة فنص ذكره، وهذا من الفصاحة، والضمير عند هذه الفرقة عائد على الساعة، أي: يوم يرون ابتداءها في الدنيا، فيصح لهم بهذا التأويل ألا يلزمهم وجود الرضاع والحمل في يوم القيامة، وإن أعادوه على الزلزلة فسد قولهم بما يلزمهم. على أن ذكر أن المراد بـ "كل ذات حمل" من مات من الإناث ولدها في جوفها. النقاش
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وهذا ضعيف.
و"الذهول": الغفلة عن الشيء بطروء ما يشغل عنه من هم أو وجع أو غيره، قال : المعنى: تترك ولدها للكرب الذي نزل بها. وقرأ ابن زيد : "تذهل" بضم التاء وكسر الهاء ونصب "كل"، وألحق الهاء في "مرضعة" لأنه أراد فاعلات ذلك في ذلك اليوم فأجراه على الفعل، وأما إذا أخبرت عن المرأة بأن لها طفلا ترضعه [ ص: 213 ] فإنما تقول: "مرضع" مثل "حامل"، قال ابن أبي عبلة علي بن سليمان : هذه الهاء في "مرضعة" ترد على الكوفيين قولهم: إن الهاء لا تكون فيما لا تلبس له بالرجال، وحكى أن بعض نحويي الطبري الكوفة قال: أم الصبي مرضعة، والمستأجرة له مرضع.
و "الحمل" بفتح الحاء: ما كان في بطن أو على رأس شجرة. وقوله تعالى: وترى الناس سكارى تشبيه لهم؛ أي: من الهم، ثم نفى عنهم السكر الحقيقي الذي هو من الخمر، قاله وغيره. الحسن
وقرأ جمهور القراء: "سكارى" بضم السين وثبوت الألف، وكذلك في الثاني، وهذا هو الباب، فمرة جعله جمعا، ومرة جعله اسم جمع، وقرأ سيبويه بفتح السين فيهما، وهذا أيضا قد يجيء في هذه الجموع، قال أبو هريرة أبو الفتح : هو تكسير، وقال : هي لغة أبو حاتم تميم ، وقرأ حمزة : "سكرى" في الموضعين، ورواه والكسائي ، عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي قراءة وأبو سعيد الخدري ، ابن مسعود وحذيفة ، وأصحاب . قال عبد الله : وقوم يقولون "سكرى"، جعلوه مثل "مرضى"؛ لأنهما شيئان يدخلان على الإنسان، ثم جعلوا "روبى" مثل "سكرى" وهم المستثقلون نوما من شرب الرائب، قال سيبويه : ويصح أن يكون "سكرى" جمع "سكر" كزمني وزمن، وقد حكى أبو علي : رجل سكر بمعنى سكران، فيجيء سكرى حينئذ لتأنيث الجمع، كما العلامة في "طائفة" لتأنيث الجمع. وقرأ سيبويه : "وترى الناس سكرى وما هم بسكارى" بالضم والألف. وحكى سعيد بن جبير المهدوي عن أنه قرأ: "وترى الناس سكارى وما هم بسكرى"، وقرأ الحسن ، الحسن ، والأعرج وأبو [ ص: 214 ] زرعة بن عمرو بن جرير في الموضعين: "سكرى" بضم السين، قال أبو الفتح : هو اسم مفرد كالبشرى، وبهذا أفتاني ، وقد سألته عن هذا. وقرأ أبو علي أبو زرعة بن عمرو بن جرير ، وأبو هريرة، وأبو نهيك : "وترى" بضم التاء، "الناس" بالنصب، قال: وإنما هي بحسبه، ورويت هذه القراءة "وترى الناس" بضم التاء والسين؛ أي: ترى جماعة الناس.