فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير
"كأين" هي كاف التشبيه دخلت على "أي": قاله ، وقد أوعبت القول في [ ص: 258 ] معنى هذه اللفظة وقراءتها في سورة آل سيبويه عمران ، في قوله تعالى: وكأين من نبي ، وهي لفظة إخبار، وقد تجيء استفهاما، وحكى : كأين ما لك؟ أي: كم ما لك؟ وقرأت فرقة: "أهلكناها"، وقرأت فرقة: "أهلكتها" بالإفراد، والمراد أهل القرية، و "ظالمة" معناه: بالكفر، و "خاوية" معناه: خالية، ومنه: خوى النجم إذا خلا من القوة، ونحوه "ساقطة على عروشها"، و "العروش": السقوف، فالمعنى أن السقوف سقطت ثم وقعت الحيطان عليها فهي على العروش. الفراء
وقوله تعالى: وبئر معطلة ، قيل: هو معطوف على "العروش"، وقيل: على "القرية"، وهو أصوب، وقرأت فرقة: "وبئر" بهمزة على الياء، وسهلها الجمهور، وقرأت فرقة: "معطلة" بفتح الميم وسكون العين وفتح الطاء وتخفيفها، والجمهور على "معطلة" بضم الميم وفتح العين وشد الطاء. و "المشيد": المبني بالشيد وهو الجص، وقيل: المشيد: المعلى بالآجر ونحوه فمن المشيد قول : عدي بن زيد
شاده مرمرا وجلله كلـ ـسا فللطير في ذراه وكور
ثم وبخهم على الغفلة وترك الاعتبار بقوله تعالى: أفلم يسيروا في الأرض ، أي: في البلاد فينظروا في أحوال الأمم المكذبة المعذبة، وهذه الآية تقتضي أن العقل في القلب، وذلك هو الحق، ولا ينكر أن للدماغ اتصالا بالقلب يوجب فساد العقل متى اختل الدماغ. قوله تعالى: "فتكون" نصب بالفاء في جواب الاستفهام، صرف الفعل من الجزم إلى النصب.
وقوله تعالى: فإنها لا تعمى الأبصار لفظة مبالغة كأنه قال: ليس العمى عمى الأبصار وإنما العمى حق العمى عمى القلب، ومعلوم أن الأبصار تعمى ولكن المقصود ما ذكرناه، وهذا قوله عليه الصلاة والسلام: ، و ليس الشديد بالصرعة ، والضمير في "فإنها" للقصة ونحوها من التقدير. وقوله تعالى: ليس المسكين بهذا الطواف التي في الصدور مبالغة، كقوله تعالى: "بأفواههم"، وكما تقول: نظرت إليه بعيني، ونحو هذا.
والضمير في "ويستعجلونك" لقريش ، وقوله: ولن يخلف الله وعده وعيد وإخبار بأن كل شيء إلى وقت محدود، و الوعد هنا مقيد بالعذاب فلذلك ورد في مكروه.
وقوله تعالى: وإن يوما عند ربك كألف سنة ، قالت فرقة: وإن يوما من أيام [ ص: 260 ] عذاب الله تعالى كألف سنة مما تعدون من هذه لطول العذاب وبؤسه، فكأن المعنى: فما أجهل من يستعجل هذا، وقالت فرقة: وإن يوما عند الله لإحاطته فيه وعلمه وإنفاذ قدرته كألف سنة عندكم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
فهذا التأويل يقتضي أن عشرة آلاف سنة إلى ما لا نهاية من العدد في حكم الألف، ولكنهم قالوا: ذكر الألف لأنها منتهى العدد دون تكرار فاقتصر عليه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وهذا التأويل لا يناسب الآية. وقالت فرقة: إن المعنى أن اليوم عند الله تعالى ألف سنة من هذا العدد، من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ، وقوله: إني لأرجو أن تؤخر أمتي نصف يوم ، ومنه قول يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم، وذلك خمسمائة سنة رضي الله عنهما: مقدار الحساب يوم القيامة ألف سنة ، فكأن المعنى: وإن طال الإمهال فإنه في بعض يوم من أيام الله. ابن عباس
وكرر قوله تعالى: "وكأين" لأنه جلب معنى آخر، ذكر أولا القرى المهلكة دون إملاء بل بعقب التكذيب، ثم ثنى بالمهملة لئلا يفرح هؤلاء بتأخير العذاب عنهم. وقرأت فرقة: "تعدون" بالتاء، وقرأت فرقة: "يعدون" بالياء على الغائب.
[ ص: 261 ]