أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون
"يهد" معناه: يبين، قاله رضي الله عنهما، وقرأ جمهور الناس: "يهدي" بالياء، فالفاعل الله تعالى في قول فرقة، والرسول في قول فرقة، والمصدر في قول فرقة، كأنه قال: أو لم يبين لهم الهدى. وجوز الكوفيون أن يكون الفاعل "كم"، ولا يجوز ذلك عند البصريين; لأنها في الخبر على حكمها في الاستفهام في أنها لا يعمل فيها ما قبلها. وقرأ ابن عباس : "نهد لهم" بالنون، وهي قراءة أبو عبد الرحمن الحسن . فالفاعل الله تعالى، و"كم" في موضع نصب: فعند الكوفيين بـ"نهد"، وعند البصريين بـ"أهلكنا" على القراءتين جميعا. وقرأ جمهور الناس: "يمشون" بفتح الياء وتخفيف الشين، وقرأ وقتادة ابن السميفع اليماني: "يمشون" بضم الياء وفتح الميم وشد الشين، وقرأ : "يمشون" بضم الياء وسكون الميم وشين مضمومة مخففة، والضمير في "يمشون" يحتمل أن يكون للمخاطبين بالبينة المحتج عليهم، ويحتمل أن يكون للمهلكين، فـ"يمشون" في موضع الحال، أي: أهلكوا وهم ماشون في مساكنهم. والضمير في عيسى بن عمر "يسمعون" للمنهيين. ومعنى الآية إقامة الحجة على الكفرة بالأمم السالفة الذين كفروا فأهلكوا.
ثم أقام عز وجل الحجة عليهم في معنى بأن نبههم على إحياء الأرض الموات بالماء، و"السوق" هو بالسحاب، و"الجرز": الأرض العاطشة التي قد أكلت نباتها من العطش والقيظ، ومنه قيل للأكول: جروز، قال الشاعر: الإيمان بالقدرة وبالبعث
خب جروز وإذا جاع بكى
[ ص: 83 ] ومن عبر عنها بأنها الأرض التي لا تنبت فإنها عبارة غير مخلصة. وعم تعالى كل أرض هي بهذه الصفة; لأن الآية فيها والعبرة بينة. وقال - رضي الله عنهما وغيره أيضا: الأرض الجرز أرض (أبين) من اليمن، وهي أرض تشرب بسيول لا بمطر. وجمهور الناس على ضم الراء، قال ابن عباس : وتقرأ: "الجرز" بسكون الراء. الزجاج
ثم خص تعالى الزرع بالذكر تشريفا له; ولأنه عظم ما يقصد من النبات، وإلا فعرف أكل الأنعام إنما هو من غير الزرع، لكنه أوقع الزرع موقع النبات، ثم فصل ذلك بأكل الأنعام وبني آدم. وقرأ ، أبو بكر بن عياش وأبو حيوة: "يأكل" بالياء من تحت، وقرأ : "تبصرون" بالتاء من فوق، وقرأ جمهور الناس: "يبصرون" بالياء. ابن مسعود
ثم حكي عن الكفرة أنهم يستفتحون ويستعجلون فصل القضاء بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم على معنى الهزء والتكذيب. و"الفتح": الحكم، هذا قول جماعة من المفسرين، وهذا أقوى الأقوال، وقالت فرقة: الإشارة إلى فتح مكة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا ضعيف، يرده الإخبار بأن الكفرة لا ينفعهم الإيمان، فلم يبق إلا أن يكون الفتح إلا إما حكم الآخرة، وهو قول ، وإما "فصل" في الدنيا كبدر ونحوه. وقوله تعالى: مجاهد قل يوم الفتح إشارة إلى الفتح الأول حسب محتملاته. فالألف واللام في "الفتح" الثاني للعهد، و"يوم" ظرف، والعامل فيه "ينفع"، و"ينظرون" معناه: يؤخرون.
ثم أمره تبارك وتعالى بالإعراض عن الكفار وانتظار الفرج، وهذا مما نسخته آية [ ص: 84 ] السيف، وقوله تعالى: إنهم منتظرون أي العذاب، بمعنى أن هذا حكمهم وإن كانوا لا يشعرون. وقرأ محمد بن السميفع: "منتظرون" أي: للعذاب النازل بهم، والله أعلم.
كمل تفسير سورة السجدة والحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين