أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير
[ ص: 160 ] الضمير في "يروا" لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة، وقفهم الله تعالى على قدرته، وخوفهم من إحاطتها بهم، المعنى: أليس يرون أمامهم ووراءهم سمائي وأرضي، لا سبيل لهم إلى فقد ذلك عن أبصارهم، ولا عدم إحاطته بهم.
وقرأ الجمهور: "إن نشأ نخسف"، أو "نسقط" بالنون في الثلاثة، وقرأ ، حمزة بالياء فيهن، وهي قراءة والكسائي ، ابن وثاب ، وابن مصرف ، والأعمش ، واختارها وعيسى . و"خسف الأرض" هو إهواؤها بهم وتهورها وغرقهم فيها، و"الكسف" قيل: هو مفرد اسم القطعة، وقيل: هو جمع كسفة، جمعها على مثال تمرة وتمر، ومشهور جمعها كسف كسدرة وسدر. أبو عبيد
وأدغم الفاء في الباء في قوله تعالى: "نخسف بهم"، قال الكسائي : وذلك لا يجوز; لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء فلا تدغم فيها، وإن كانت الباء تدغم في الفاء كقولك: "اضرب فلانا"، وهذا كما تدغم الباء في الميم كقولك: "اضرب محمدا"، ولا تدغم الميم في الباء كقولك: "أصمم بك"; لأن الباء انحطت عن الميم بفعل الغنة التي في الميم. أبو علي
والإشارة بقوله: في ذلك إلى إحاطة السماء بالمرء، ومماسة الأرض له على كل حال. و"المنيب": الراجع.
ثم ذكر تعالى نعمته على داود وسليمان عليهما السلام احتجاجا على ما منح محمدا صلى الله عليه وسلم، أي: لا تستبعدوا هذا فقد تفضلنا على عبدنا قديما بكذا، فلما فرغ التمثيل لمحمد عليه الصلاة والسلام رجع التمثيل لهم بسبإ وما كان من هلاكهم بالكفر والعتو، والمعنى: قلنا :يا جبال، و"أوبي" معناه: ارجعي معه; لأنه مضاعف آب [ ص: 161 ] يؤوب، فقال ، ابن عباس ، وقتادة ، وغيرهم: معناه: سبحي معه، أي: يسبح هو وترجع هي معه التسبيح، أي: ترده بالذكر، ثم ضوعف الفعل للمبالغة، وقيل: معناه: سيري معه; لأن التأويب سير النهار، كان الإنسان يسير بالليل ثم يرجع السير بالنهار، أي يردده، فكأنه يؤوبه، فقيل له: التأويب، ومنه قول الشاعر: وابن زيد
يومان يوم مقامات وأندية ... ويوم سير إلى الأعداء تأويب
ومنه قول ابن مقبل:
لحقنا بحي أوبوا السير بعدما ... دفعنا شعاع الشمس والطرف يجنح
وقال مؤرج: "أوبي": سبحي بلغة الحبشة. وهذا ضعيف غير معروف، وقال : المعنى: نوحي معه والطير تساعدك على ذلك، قال: فكان وهب بن منبه داود عليه السلام إذا نادى بالنياحة والحنين أجابته الجبال وعكفت الطير عليه من فوقه، قال: فمن حينئذ سمع صدى الجبال، وقرأ الحسن، ، وقتادة وابن أبي إسحاق : "أوبي" بضم الهمزة وسكون الواو، أي" ارجعي معه، أي في السير أو في التسبيح، وأمر الجبال كما تؤمر الواحدة المؤنثة لأن جميع ما لا يعقل كذلك يؤمر، وكذلك يكنى عنه ويوصف، ومنه المثل "يا خيل الله اركبي"، ومنه مآرب أخرى ، وهذا كثير.
[ ص: 162 ] وقرأ ، الأعرج - بخلاف - وجماعة من أهل وعاصم المدينة: "والطير" بالرفع عطفا على لفظ قوله: "يا جبال"، وقرأ ، نافع ، وابن كثير ، والحسن وابن أبي إسحاق ، : "والطير" بالنصب، فقيل: ذلك عطف على "فضلا"، وهو مذهب وأبو جعفر ، وقال الكسائي : هو على موضع قوله: "يا جبال" لأن موضع المنادى المفرد نصب، وقال سيبويه : نصبها بإضمار فعل تقديره: وسخرنا الطير. وقوله: أبو عمرو وألنا له الحديد معناه: جعلناه لينا، وروى وغيره أن الحديد كان له كالشمع لا يحتاج في عمله إلى نار، وقيل: أعطاه قوة يثني بها الحديد، وروي أنه لقي ملكا - قتادة وداود عليه السلام يظنه إنسانا - وداود متنكر خرج ليسأل الناس عن نفسه في خفاء، فقال داود لذلك الشخص الذي تمثل فيه الملك: ما قولك في هذا الملك داود؟ فقال له الملك: نعم العبد لولا خلة فيه، قال داود: وما هي؟ قال: يرتزق من بيت المال، ولو أكل من عمل يديه لتمت فضائله، فرجع فدعا الله في أن يعلمه صنعة ويسهلها عليه، فعلمه تعالى صنعة اللبوس، وألان له الحديد، فكان - فيما روي - يصنع ما بين يومه وليلته درعا تساوي ألف درهم، حتى ادخر منها كثيرا وتوسعت معيشته، وكان ينفق بيت المال في مصالح المسلمين.
وقوله تعالى: أن اعمل سابغات ، قيل إن "أن" مفسرة لا موضع لها من الإعراب، وقيل: هي في موضع نصب بإسقاط حرف الجر، و"السابغات": الدروع الكاسيات ذوات القفول، قال : قتادة داود عليه السلام أول من صنعها، ودرع الحديد مؤنثة، ودرع المرأة مذكر.
وقوله تعالى: وقدر في السرد ، اختلف المتأولون، في أي شيء هو التقدير من أشياء السرد؟ إذ السرد هو اتباع الشيء بالشيء من جنسه، قال الشماخ:
كما تابعت سرد العنان الخوارز
[ ص: 163 ] ومنه: سرد الحديث، وقيل للدرع: مسرودة لأنها توبعت فيها الحلق بالحلق، ومنه قول الشاعر :
وعليهما مسرودتان قضاهما ...داود أو صنع السوابغ تبع
وقول دريد: في الفارسي المسرد
[ ص: 164 ] فقال : التقدير الذي أمر به هو في قدر الحلقة، أي: لا تعملها صغيرة فتضعف ولا تقوى الدرع على الدفاع، ولا كبيرة فينال لابسها من خلالها، وقال ابن زيد رضي الله عنهما: التقدير الذي أمر به هو المسمار، يريد: قدر المسامير والحلق، حتى لا تدق المسمار فتسلس، ويروى فيسلسل، ولا تغلظه فينقصم، بالقاف - وبالفاء أيضا رواية -، وروى ابن عباس أن الدروع كانت قبله صفائح فكانت ثقالا، فلذلك أمر هو بالتقدير فيما يجمع بين الخفة والحصانة، أي: قدر ما يأخذ من هذين المعنيين بقسطه، أي: لا تقصد الحصانة فتثقل، ولا الخفة وحدها فيزيل المنعة. قتادة
وقوله: واعملوا صالحا ، لما كان الأمر لداود وآله حكي وإن كان لم يجر لهم ذكر لدلالة المعنى عليهم، ثم توعدهم بقوله: إني بما تعملون بصير ، أي: لا يخفى علي حسنه من قبيحه، وبحسب ذلك يكون جزائي لكم.