قوله عز وجل:
ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور
[ ص: 219 ] "أورثنا" معناه: أعطيناه فرقة بعد موت فرقة، والميراث - حقيقة أو مجازا - إنما يقال فيما صار لإنسان بعد موت آخر، والكتاب هنا يريد به معاني الكتاب وعلمه وأحكامه وعقائده، فكأن الله تعالى لما أعطى أمة محمد صلى الله عليه وسلم القرآن - وهو قد تضمن معاني الكتب المنزلة قبله - فكأنه ورث أمة محمد صلى الله عليه وسلم الكتاب الذي كان في الأمم قبلهم.
و الذين اصطفينا يريد بهم أمة محمد عليه الصلاة والسلام، قاله رضي الله عنهما وغيره، وكأن اللفظ يحتمل أن يريد به جميع المؤمنين من كل أمة إلا أن عبارة توريث الكتاب لم تكن إلا لأمة ابن عباس محمد صلى الله عليه وسلم، والأول لم يورثوه. و"اصطفينا": اخترنا وفضلنا، و"العباد" عام في جميع العالم، مؤمنهم وكافرهم.
واختلف الناس في عود الضمير من قوله تعالى: فمنهم ، فقال ، ابن عباس رضي الله عنهم ما مقتضاه أن الضمير عائد على "الذين"، والأصناف الثلاثة هي كلها في أمة وابن مسعود محمد صلوات الله وسلامه عليه، فـ"الظالم لنفسه": العاصي المسرف. و"المقتصد": متقي الكبائر، وهو الجمهور من الأمة، و"السابق": المتقي على الإطلاق، وقالت هذه الفرقة: والأصناف الثلاثة في الجنة، وقاله رضي الله عنه، والضمير في أبو سعيد الخدري "يدخلونها" عائد على الأصناف الثلاثة، قالت رضي الله تعالى عنها: دخلوا الجنة كلهم، وقال عائشة : استوت مناكبهم ورب الكعبة وتفاضلوا بأعمالهم، وفي رواية: تحاكت مناكبهم، وقال كعب الأحبار أما الذي سمعت مذ ستين سنة، فكلهم ناج، وقال أبو إسحق السبيعي: : هذه الأمة يوم القيامة أثلاث: ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ثم يدخلون الجنة، وثلث يجيئون بذنوب عظام، فيقول الله: ما هؤلاء؟ - وهو أعلم بهم - فتقول الملائكة: هم مذنبون إلا أنهم لم يشركوا، فيقول عز وجل: أدخلوهم في سعة رحمتي، وقالت ابن مسعود رضي الله عنها في كتاب عائشة : السابق من أسلم قبل الهجرة، والمقتصد من أسلم بعدها، والظالم نحن، وقال الثعلبي السابق من رجحت حسناته، [ ص: 220 ] والمقتصد من استوت بسيئاته، والظالم من خفت موازينه، وقال الحسن: سهل بن عبد الله : السابق العالم، والمقتصد المتعلم، والظالم الجاهل. وقال ذو النون: الظالم الذاكر لله بلسانه فقط، والمقتصد الذاكر بقلبه، والسابق الذي لا ينساه. وقال الأنطاكي: الظالم صاحب الأقوال، والمقتصد صاحب الأفعال، والسابق صاحب الأحوال، وروى رضي الله عنه أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال: "كلهم في الجنة"، وقرأ رضي الله عنه هذه الآية ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له"، عمر بن الخطاب وقال عليه الصلاة والسلام: العرب، سابق وسلمان الفرس، سابق وصهيب الروم، سابق وبلال الحبشة"، أراد عليه الصلاة والسلام أن هؤلاء رؤوس السابقين، وقال "أنا سابق رضي الله عنه: "سابقنا أهل جهاد، ومقتصدنا أهل حضرنا، وظالمنا أهل بدونا، لا يشهدون جماعة ولا جمعة". عثمان بن عفان
وقال ، عكرمة ، وقتادة ، ما مقتضاه أن الضمير في "منهم" عائد على [ ص: 221 ] "العباد"، والظالم لنفسه: الكافر والمنافق، والمقتصد: المؤمن العاصي، والسابق: التقي على الإطلاق، قالوا: وهذه الآية نظير قوله تعالى: والحسن وكنتم أزواجا ثلاثة والضمير في قوله تعالى: "يدخلونها" - على هذا القول - خاص على الفرقتين: المقتصد والسابق، والفرقة الظالمة في النار، قالوا: وبعيد أن يكون ممن يصطفى ظالم كما يقتضي التأويل الأول، وروي هذا القول عن رضي الله عنهما. ابن عباس
قال بعض العلماء: قدم الظالم لأنه لا يتكل إلا على رحمة الله، والمقتصد هو المعتدل في أموره، لا يسرف في جهة من الجهات، بل يلزم الوسط. وقال عليه الصلاة والسلام: "خير الأمور أوساطها".
وقالت فرقة - لا معنى لقولها -: إن قوله تعالى: الذين اصطفينا هم الأنبياء، والظالم لنفسه منهم من وقع في صغيرة، وهذا قول مردود من غير ما وجه.
وقرأ الجمهور: "سابق بالخيرات"، وقرأ : "سباق". أبو عمران الجوني
وقوله تعالى: بإذن الله معناه: بأمره ومشيئته فيمن أحب من عباده، وقوله: ذلك هو الفضل الكبير إشارة إلى الاصطفاء وما يكون عنه من الرحمة.
وقال : السبوق بالخيرات هو الفضل الكبير، قال في كتاب الطبري : جمعهم في دخول الجنة لأنه ميراث، والبار والعاق سواء في الميراث مع صحة النسب، فكذلك هؤلاء مع صحة الإيمان. الثعلبي
وقرأ الجمهور: "جنات" بالرفع على البدل من "الفضل"، وقرأ الجحدري: [جنات] بالنصب بفعل مضمر يفسره "يدخلونها"، وقرأ : "جنة عدن" على [ ص: 222 ] الإفراد، وقرأ زر بن حبيش : "يدخلونها" على بناء الفعل للمجهول، ورويت عن أبو عمرو ، وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الخاء. ابن كثير
و"أساور" جمع أسورة، وأسورة جمع سوار، بضم السين وكسرها، وفي حرف أبي [أساوير]، وهو جمع أسوار، وقد يقال ذلك في الحلي، ومشهور أسوار أنه الجيد الرمي من جند الفرس، و"يحلون" معناه: نساء ورجالا، وقرأ - في رواية عاصم -: "ولؤلؤا" بالنصب عطفا على "أساور"، وكان أبي بكر - في رواية عاصم - يقرأ: "ولولؤا" بسكون الواو الأولى دون همز وبهمز الثانية، وروي عنه ضد هذا، وقرأ الباقون: "ولؤلؤ" بالهمز وبالخفض عطفا على أبي بكر "أساور".
و"الحزن" في هذه الآية عام في جميع أنواع الأحزان، وخصص المفسرون في هذا هاهنا، فقال رضي الله عنه: حزن أهوال يوم القيامة وما يصيب هناك من ظلم نفسه من الغم والحزن، وقال أبو الدرداء رضي الله عنهما: حزن جهنم، وقال ابن عباس عطية: حزن الموت، وقال : حزن الدنيا في الخوف ألا تتقبل أعمالهم، وقيل غير هذا مما هو جزء من الحزن، ولا معنى لتخصيص شيء من هذه الأحزان; لأن الحزن أجمع قد ذهب عنهم. وقولهم: قتادة لغفور شكور وصفوه بأنه تبارك وتعالى يغفر الذنوب، ويجازي على القليل من الأعمال الصالحة بالكثير من الثواب، وهذا هو شكره لا رب سواه.