أولئك لهم رزق معلوم فواكه وهم مكرمون في جنات النعيم على سرر متقابلين يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون وعندهم قاصرات الطرف عين كأنهن بيض مكنون
"أولئك" إشارة إلى العباد المخلصين، وقوله: "معلوم"، معناه: عندهم، فقد قرت عيونهم بعلم ما يستدر عليهم من الرزق، وبأن شهواتهم تأتيهم لحينها، وإلا فلو كان ذلك معلوما عند الله تعالى فقط لما تخصص أهل الجنة بشيء، وقوله: وهم مكرمون تتميم بليغ للنعيم; لأنه رب مرزوق غير مكرم، وذلك أعظم التنكيل.
و"السرر": جمع سرير، وقرأ أبو السمال بفتح الراء الأولى، وفي هذا التقابل حديث مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم في الجنان وترفع عنهم ستور فينظر بعضهم إلى بعض، ولا محالة أن بعض أحيانهم فيها متخيرون في قصورهم.
و"يطاف" معناه: يطوف الولدان، حسبما فسرته آية أخرى، و"الكأس" قال ، الزجاج ، وغيرهما: هو الإناء الذي فيه خمر أو ما يجري مجراه من الأنبذة ونحوها، ولا تسمى كأسا إلا وفيها هذا المشروب المذكور، وقال والطبري : كل كأس في القرآن فهو خمر، وذهب بعض الناس إلى أن الكأس آنية مخصوصة في الأواني، وهو كل ما اتسع فمه ولم يكن له مقبض، ولا يراعى في ذلك كونه بخمر أم لا. وقوله: الضحاك من معين يريد: من جار مطرد، فالميم في معين أصلية; لأنه من الماء المعين، ويحتمل أن يكون من العين فتكون الميم زائدة، أي: مما يعين بالعين غير مستور ولا في حرز، وخمر الدنيا إنما هي معصورة مختزنة، وخمر الآخرة جارية أنهارا.
وقوله سبحانه: لا فيها يحتمل أن يعود على الكأس أو على الخمر، وهو الأظهر، وقال خمر الجنة أشد بياضا من اللبن، وفي قراءة الحسن بن أبي الحسن: : [صفراء]، فهذا موصوف به الخمر وحدها، و عبد الله بن مسعود لذة للشاربين أي: ذات لذة، فوصفها بالمصدر اتساعا، وقد استعمل هذا حتى قيل: لذ بمعنى: لذيذ، ومنه قول الشاعر:
[ ص: 283 ]
بحديثك اللذ الذي لو كلمت ... أسد الفلاة به أتين سراعا
وقوله: لا فيها غول لم تعمل "لا"; لأن الظرف حال بينها وبين ما شأنها أن تعمل فيه. و"الغول": اسم عام في الأذى، تقول: غاله كذا إذا أضره في خفاء، ومنه الغيلة في القتل، ومن اللفظة قول الشاعر: وقال عليه الصلاة والسلام في الرضاع: "لقد هممت أن أنهى عن الغيلة"،
مضى أولونا ناعمين بعيشهم ... جميعا وغالتني بمكة غول
أي: عاقتني عوائق، فهذا معنى من معاني "الغول"، ومنه قول العرب في مثل من الأمثال: "ما له عمل ما أغاله"، يضرب للرجل الحديد الذي لا يقوم لأمر إلا أغنى فيه، أو الرجل يدعى له بأن يؤدي ما أداه، وقال ، ابن عباس ، ومجاهد : الغول وجع في البطن، وقال وابن زيد أيضا، ابن عباس : هو صداع في الرأس. وقتادة
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والاسم أعم من هذا كله، فنفى عن خمر الجنة جميع أنواع الأذى، إذ هي موجودة في خمر الدنيا، وقد نحا إلى هذا العموم ، ومنه قول الشاعر: سعيد بن جبير
وما زالت الخمر تغتالنا ... وتذهب بالأول الأول
[ ص: 284 ] أي: تؤذينا بذهاب العقل.
وقرأ ، ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : "ينزفون" بفتح الزاي، وكذلك في الواقعة، من قولك: نزف الرجل إذا سكر، ونزفته الخمر، والنزيف: السكران، ومنه قول الشاعر : وابن عامر
فلثمت فاها آخذا بقرونها ... شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
وبإذهاب العقل فسر ، ابن عباس "ينزفون"، وقرأ وقتادة ، حمزة بكسر الزاي، وكذلك في الواقعة، من: أنزف بمعنيين: أحدهما سكر، ومنه قول والكسائي الأبيرد الرياحي:
لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم ... لبئس الندامى كنتم آل أبجرا
[ ص: 285 ] والثاني: بعد شرابه، يقال: أنزف الرجل إذا تم شرابه، فهذا كله منفي عن أهل الجنة، وقرأ هنا بفتح الزاي، وفي الواقعة بكسر الزاي، وقرأ عاصم ابن أبي إسحق بفتح الياء وكسر الزاي.
قوله تعالى: قاصرات الطرف ، قال ، ابن عباس ، ومجاهد ، وابن زيد : معناه: على أزواجهن، أي لا ينظرن إلى غيرهم، ولا يمتد طرف إحداهن إلى أجنبي، فهذا هو قصر الطرف. و"عين": جمع عيناء، وهي الكبيرة العينين في جمال. وقتادة
وأما قوله تعالى: كأنهن بيض مكنون فاختلف الناس، ما هو؟ فقال ، السدي : شبه ألوانهن بلون قشر البيضة الداخلي، وهو الغرقئ، وهو المكنون، أي: المصون في كن، ورجحه وابن جبير ، قال: وأما خارج قشر البيضة فليس بمكنون، وقال الجمهور: شبه ألوانهن بلون قشر بيض النعام، وهو بياض قد خالط صفرة حسنة، قالوا: والبيض نفسه في الأغلب هو المكنون بالريش، ومتى شذت به حال فلم يكن مكنونا خرج عن أن يشبه به، وهذا قول الطبري الحسن، ، ومنه قول وابن زيد امرئ القيس:
كبكر المقاناة البياض بصفرة ... غذاها نمير الماء غير المحلل
[ ص: 286 ] وهذه المعنى كثير في أشعار العرب. وقال رضي الله عنهما - فيما حكى ابن عباس -: البيض المكنون أراد به الجوهر المصون. الطبري
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا لا يصح عندي عن رضي الله عنهما; لأنه ترده اللفظة من الآية. ابن عباس
وقالت فرقة: إنما شبههن تعالى بالبيض المكنون تشبيها عاما، جملة المرأة بجملة البيضة، وأراد بذلك: تناسب أجزاء المرأة، وأن كل جزء منها نسبته في الجودة إلى نوعه نسبة الآخر من أجزائه إلى نوعه، فنسبة شعرها إلى عينها مستوية إذ هما غاية في نوعهما، والبيضة أشد الأشياء تناسب أجزاء; لأنك من حيث جئتها فالنظر فيها واحد.