ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين
لما ذكر الله تعالى أنه ضرب للناس في هذا القرآن من كل مثل مجملا، جاء بعد ذلك بمثل في أهم الأمور وأعظمها خطرا وهو التوحيد، فمثل تعالى الكافر والعابد للأوثان والشياطين بعبد لرجال عدة، في أخلاقهم شكاسة ونقص وعدم مسامحة، فهم لذلك يعذبون ذلك العبد بأنهم يتضايقون في أوقاتهم، ويضايقون العبد في كثرة العمل، فهو أبدا ناصب، فكذلك عابد الأوثان، الذي يعتقد أن ضره ونفعه عندها هو معذب الفكر بها، وبحراسة حاله منها، ومتى أرضى صنما منها بالذبح له في زعمه تفكر فيما يصنع مع الآخر، فهو أبدا في نصب و ضلال، وكذلك هو المصانع للناس، الممتحن بخدمة الملوك.
[ ص: 391 ] ومثل تعالى المؤمن بالله تبارك وتعالى وحده بعبد لرجل واحد يكلفه شغله، فهو يعمله على تؤدة، وقد ساس مولاه، فالمولى يغفر زلته، ويشكره على إجادة عمله.
وقوله تعالى: "ضرب" مأخوذ من الضريب الذي هو الشبيه، ومنه قولهم: "هذا ضرب هذا"، أي: شبهه، و"مثلا" مفعول بـ"ضرب"، و"رجلا" بدل، قال : وإن شئت على إسقاط الخافض، أي: "مثلا لرجل"، أو"في رجل"، وفي هذا نظر. الكسائي
و"متشاكسون" معناه: لا سمح في أخلاقهم، بل فيها لجاج ومتابعة ومحاذقة، ومنه قول الشاعر:
خلقت شكسا للأعادي مشكسا
وقرأ ، ابن كثير : [ سالما ] على اسم الفاعل، بمعنى: سلم من الشركة فيه، قال وأبو عمرو : معناه: خالصا، وهذه بالألف قراءة أبو عمرو ، ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والجحدري، وقتادة ، والزهري - بخلاف عنه - وقرأ الباقون: "سلما" بفتح السين واللام، وهي قراءة والحسن ، الأعرج ، وأبي جعفر وشيبة ، ، وأبي رجاء ، وطلحة بخلاف -. وقرأ والحسن : [سلما] بكسر السين وسكون اللام، وهما مصدران وصف بهما الرجل، بمعنى: خالصا وأمرا قد سلم له. سعيد بن جبير
[ ص: 392 ] ثم وقف الكفار بقوله: هل يستويان مثلا ، ونصب "مثلا" على التمييز، وهذا توقيف لا يجيب عنه أحد إلا بأنهما لا يستويان، فلذلك عاملتهم العبارة الوجيزة على أنهم قد جاوبوا، فقال: الحمد لله على ظهور الحجة عليكم من أقوالكم، ثم قال: بل أكثرهم لا يعلمون فأضرب عن مقدر محذوف يقتضيه المعنى، تقديره: الحمد لله على ظهور الحجة، وأن الأمر ليس كما يقولون، بل أكثرهم لا يعلمون. و"أكثر" في هذه الآية على بابها، لأنا وجدنا الأقل علم أمر التوحيد وتكلم به، ورفض أمر الأصنام، كورقة وزيد، وقس.
ثم ابتدأ القول معهم في غرض آخر من الوعيد يوم القيامة والخصومة فيه، ومن التحذير من حال الكذبة على الله، المكذبين بالصدق، فقدم تعالى لذلك توطئة مضمنها وعظ النفوس وتهيئتها لقبول الكلام وحذف التوعد، وهذا كما تريد أن تنهى إنسانا عن معاصيه، أو تأمره بخير، فتفتتح كلامك بأن تقول: كلنا يفنى، أو: لابد للجميع من الموت، أو: كل من عليها فان، ونحو هذا مما ترقق به نفس الذي تحادثه، ثم بعد هذا تورد قولك. فأخبر تعالى أن الجميع ميت، وهذه قراءة الجمهور، وقرأها [مائت] و[مائتون] بألف ، ابن الزبير وابن محيصن، وابن أبي إسحاق ، واليماني، ، وعيسى بن عمر وابن أبي عقرب، والضمير في "إنهم" لجميع العالم. دخل رجل على صلة بن أشيم فنعى إليه أخاه، وبين يدي صلة طعام، فقال صلة للرجل: ادن فكل، فإن أخي قد نعي إلي منذ زمان، قال الله تعالى: إنك ميت وإنهم ميتون .
والضمير في ثم إنكم قيل: هو عام أيضا، فيختصم يوم القيامة المؤمنون والكافرون فيما كان من ظلم الكافرين لهم في كل موطن ظلموا فيه، ومن هذا قول رضي الله عنه: أنا أول من يجثو يوم القيامة للخصومة بين يدي الرحمن عز وجل، فيختصم علي بن أبي طالب علي، ، وحمزة رضي الله عنهم مع وعبيدة بن الحارث عتبة ، وشيبة ، [ ص: 393 ] والوليد، ويختصم أيضا المؤمنون بعضهم مع بعض في ظلاماتهم، قاله وغيره، أبو العالية للنبي صلى الله عليه وسلم: أيكتب علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال: "نعم، حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه"، الزبير بن العوام وقد قال وقال رضي الله عنه: لما نزلت هذه الآية قلنا: كيف نختصم ونحن إخوان؟ فلما قتل عبد الله بن عمر رضي الله عنه، وضرب بعضنا وجوه بعض بالسيوف قلنا: هذا الخصام الذي وعدنا ربنا تعالى، ويختصم أيضا - على ما روي - الروح مع الجسد في أن يذنب كل واحد منهما صاحبه، ويجعل المعصية في حيزه، فيحكم الله تعالى بشركتهما في ذلك. عثمان بن عفان
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ومعنى الآية عندي أن الله تعالى توعدهم بأنهم سيخاصمون يوم القيامة في معنى ردهم في وجه الشريعة، وتكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
[ ص: 394 ] ثم وقفهم الله تعالى توقيفا معناه نفي الموقف عليه بقوله تعالى: فمن أظلم ، أي: لا أحد أظلم ممن كذب على الله، والإشارة بهذا الكذب بقولهم: إن لله صاحبة وولدا، وقولهم: هذا حلال وهذا حرام افتراء على الله تعالى، وكذبوا أيضا بالصدق، وذلك تكذيبهم أقوال محمد صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، ما كان من ذلك معجزا أو غير معجز، ثم توعدهم تبارك وتعالى توعدا فيه احتقارهم بقوله على وجه التوقيف: أليس في جهنم مثوى للكافرين ، والمثوى: موضع الإقامة.