وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم [ ص: 435 ] الحساب وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب
الظاهر من أمر فرعون أنه لما بهرت آيات موسى عليه السلام انهد ركنه، واضطربت معتقدات أصحابه، ولم يفقد منهم من يجاذبه الخلاف في أمره، وذلك بين من غير ما موضع من قصتهما، وفي هذه الآية على ذلك دليلان: أحدهما قوله: ذروني أقتل موسى ، فليست هذه من ألفاظ الجبابرة المتمكنين من إنفاذ أوامرهم، والدليل الثاني: مقالة المؤمن وما صدع به، وأن مكاشفته لفرعون أكبر من مسايرته، وحكمه بنبوة موسى عليه السلام أظهر من توريته في أمره، وأما فرعون فإنما لجأ إلى المخرقة والاضطراب والتعاطي، ومن ذلك قوله: ذروني أقتل موسى وليدع ربه ، أي: إني لا أبالي عن رب موسى، ثم رجع إلى قومه يريهم النصيحة والحماية لهم فقال: إني أخاف أن يبدل دينكم ، والدين: السلطان، ومنه قول زهير :
لئن حللت بجو من بني أسد ... في دين عمرو وحالت بيننا فدك
وقرأ ، ابن عامر ، وابن كثير ، ونافع : "وأن"، وقرأ وأبو عمرو ، عاصم ، وحمزة : "أو أن"، ورجحها والكسائي بزيادة الحرف، فعلى الأولى خاف أمرين، وعلى الثانية خاف أحد أمرين. وقرأ أبو عبيد ، نافع ، وأبو عمرو وحفص عن ، عاصم ، والحسن ، وقتادة والجحدري، ، وأبو رجاء ، ومجاهد ، وسعيد بن المسيب : "يظهر" بضم الياء وكسر الهاء "الفساد" نصبا، وقرأ ومالك بن أنس ، ابن كثير : [ ص: 436 ] "يظهر" بفتح الياء والهاء [الفساد] بالرفع على إسناد الفعل إليه، وهي قراءة وابن عامر ، حمزة ، والكسائي عن وأبي بكر ، عاصم ، والأعرج ، وعيسى ، والأعمش ، وروي عن وابن وثاب أنه قرأ: "ويظهر" برفع الراء، وفي مصحف الأعمش رضي الله عنه: "ويظهر" بفتح الياء. ابن مسعود
ولما سمع موسى عليه السلام مقالة فرعون- لأنه كان معه في مجلس واحد- دعا ربه تعالى وقال: إني عذت بربي وربكم الآية، وقرأ ، ابن كثير ، وعاصم : "عذت" ببيان الذال، وقرأ وابن عامر ، أبو عمرو ، وحمزة : "عذت" بالإدغام، واختلف عن والكسائي ، وفي مصحف نافع : "عت" على الإدغام في الخط. أبي بن كعب
ثم حكى الله تعالى مقالة رجل مؤمن من آل فرعون، وشرفه بالذكر، وخلد ثناءه في الأمم، سمعت أبي رحمه الله تعالى يقول: سمعت أبا الفضل الجوهري على المنبر يقول - وقد سئل أن يتكلم في شيء من فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم - فأطرق قليلا ثم رفع رأسه وقال:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي
ماذا تريدون من قوم قرنهم الله تعالى بنبيه صلى الله عليه وسلم، وخصهم بمشاهدته وتلقي الوحي منه؟ وقد أثنى الله على رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه، فجعله الله تعالى في كتابه وأثبت ذكره في المصاحف لكلام قاله في مجلس من مجالس الكفر، وأين هو من رضي الله عنه جرد سيفه عمر بن الخطاب بمكة وقال: والله لا أعبد الله سرا بعد اليوم؟
وقرأت فرقة: "رجل" بسكون الجيم، كعضد وعضد، وسبع وسبع، وقراءة الجمهور: "رجل" بضم الجيم.
واختلف الناس في هذا الرجل، فقال وغيره: كان من آل السدي فرعون، وكان يكتم إيمانه، فـ"يكتم" - على هذا - في موضع الصفة دون تقديم وتأخير، وقال [ ص: 437 ] : كان ابن عم فرعون، وقالت فرقة: لم يكن من أهل مقاتل فرعون بل من بني إسرائيل، وإنما المعنى: وقال رجل يكتم إيمانه من آل فرعون، ففي الكلام تقديم وتأخير. والأول أصح، ولم يكن لأحد من بني إسرائيل أن يتكلم بمثل هذا عند فرعون، ويحتمل أن يكون من غير القبط ويقال فيه: من آل فرعون إذ كان في الظاهر على دين فرعون ومن أتباعه، وهذا كما قال أراكة الثقفي يرثي أخاه ويتعزى برسول الله صلى الله عليه وسلم:
فلا تبك ميتا بعد ميت أجنه ... علي وعباس وآل أبي بكر
يعني المسلمين إذ كانوا في طاعة رضي الله عنه. وقوله تعالى: أبي بكر الصديق "أن يقول" مفعول من أجله، أي لأجل أن يقول، وجلح معهم هذا المؤمن في هذه المقالات، ثم غالطهم بعد في أن جعله في احتمال الصدق والكذب، وأراهم أنها نصيحة. وحذفت النون من "يك" تخفيفا على ما قال ، وتشبيها بالنون في "يفعلون ويفعلان" على مذهب سيبويه ، وتشبيها بحرف العلة - الياء والواو - على مذهب المبرد ، وقال: كأن الجازم دخل على "يكن" وهي مجزومة بعد فأشبهت النون الياء من "يقضي" والواو من "يدعو" لأن خفتها على اللسان سواء. أبي علي الفارسي
واختلف المتأولون في قوله: يصبكم بعض الذي يعدكم فقال وغيره: "بعض" بمعنى "كل"، وأنشدوا قول أبو عبيدة القطامي عمير بن شييم:
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
[ ص: 438 ] وقال : هو إلزام الحجة بأيسر ما في الأمر، وليس فيه نفي إصابة الكل، وقالت فرقة، أراد: يصبكم بعض العذاب الذي يذكر، وذلك كاف في هلاككم، ويظهر لي أن المعنى: يصبكم القسم الواحد مما يعد به، وذلك هو بعض ما يعد; لأنه عليه السلام وعدهم إن آمنوا بالنعيم، وإن كفروا بالعذاب، فإن كان صادقا فالعذاب بعض ما وعد به، وقالت فرقة: أراد ببعض ما يعدكم: عذاب الدنيا، لأنه بعض عذاب الآخرة، أي: وتصيرون بعد ذلك إلى الباقي، وفي البعض كفاية في الإهلاك. الزجاج
ثم وعظهم هذا المؤمن بقوله: إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب ، قال : مسرف بالقتل، وقال السدي : مسرف بالكفر. قتادة