قوله عز وجل:
لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور
الآية الأولى آية اعتبار دالة على القدرة والملك المحيط بالخلق، وأن وفي كل أمرهم، وهذا لا مدخل لصنم فيه، فإن الذي [ ص: 529 ] يخلق ما يشاء ويخترع إنما هو الله سبحانه، وهو الذي يقسم الخلق، فيهب الإناث لمن شاء أن يجعل نسله نساء، ويهب الذكور لمن شاء على هذا الحد، أو ينوعهم: مرة يهب ذكرا، ومرة أخرى أنثى، وذلك معنى قوله تعالى: مشيئته عز وجل نافذة في جميع خلقه، أو يزوجهم ، وقال : يريد بقوله: محمد بن الحنفية أو يزوجهم : التوأم، أي: يجعل في بطن زوجا من الذرية ذكرا وأنثى. و"العقيم": الذي لا يولد له، وهذا كله مدبر بالعلم والقدرة، وهذه الآية تقضي بفساد وجود الخنثى المشكل.
وبدأ تعالى في هذه الآية بذكر الإناث تأنيسا بهن وتشريفا لهن ليتهمم بصونهن والإحسان إليهن، وقال النبي عليه الصلاة والسلام : وقال "من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له حجابا من النار"، وائل بن الأسقع: "من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر، لأن الله تعالى بدأ بالإناث"، حكاه عنه . وقال الثعلبي : نزلت هذه الآية في الأنبياء عليهم السلام ثم عممت، إسحاق بن بشر فلوط عليه السلام أبو البنات لم يولد له ذكر، وإبراهيم عليه السلام ضده، ومحمد عليه الصلاة والسلام ولد له الصنفان، ويحيى بن زكريا عليهما السلام عقيم.
وقوله تعالى: وما كان لبشر الآية، نزلت بسبب خوض كان للكفار في معنى تكليم الله تعالى موسى عليه السلام ونحو ذلك، ذهبت قريش واليهود في ذلك إلى تجسيم ونحوه، فنزلت الآية مبينة صورة تكليم الله تبارك وتعالى عباده كيف هو، فبين تعالى أنه لا يكون لأحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولا ينبغي له ولا يمكن فيه أن يكلمه الله تبارك وتعالى إلا بأن [ ص: 530 ] يوحي إليه أحد وجوه الوحي من الإلهام. قال : والنفث في القلب، وقال مجاهد : أو وحي في منام؟ قال النقاش : كان من الأنبياء عليهم السلام من يخط له في الأرض ونحو هذا، أو بأن يسمعه كلامه دون أن يعرف هو للمتكلم جهة ولا خبرا إبراهيم النخعي كموسى عليه السلام، وهذا معنى: من وراء حجاب أي: من خفاء عن المتكلم لا يحده ولا يتصور بذهنه عليه، وليس كالحجاب في الشاهد، أو بأن يرسل إليه ملكا يشافهه بوحي الله تبارك وتعالى.
وقرأ جمهور القراء والناس: "أو يرسل" بالنصب، "فيوحي" بالنصب أيضا. وقرأ ، نافع ، وأهل وابن عامر المدينة: "أو يرسل" بالرفع "فيوحي" بسكون الياء ورفع الفعل، فأما القراءة الأولى فقال : سألت سيبويه عنها فقال: هي محمولة على "أن" غير التي في قوله تعالى: الخليل أن يكلمه الله لأن المعنى كان يفسد لو عطف على هذه، وإنما التقدير في قوله تعالى: "وحيا": "إلا أن يوحي وحيا"، وقوله تعالى: أو من وراء حجاب ، "من" متعلقة بفعل يدل ظاهر الكلام عليه، تقديره: أو يكلمه من وراء حجاب، ثم عطف تعالى: "أو يرسل" على هذا الفعل المقدر، وأما القراءة الثانية فعلى أن "يرسل" في موضع الحال أو على القطع، كأنه تعالى قال: "أو هو يرسل"، وكذلك يكون قوله تعالى: "إلا وحيا" مصدر في موضع الحال، كما تقول: أتيتك ركضا وعدوا، وكذلك قوله تعالى: من وراء حجاب في موضع الحال أيضا، كما هو قوله تعالى: ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين في موضع الحال، فكذلك "من" وما عملت فيه هذه الآية أيضا، ثم عطف قوله تعالى: "أو يرسل" على هذه الحال المتقدمة، وفي هذه الآية دليل على أن وأن الحالف المرسل حانث الرسالة من أنواع التكليم، إذا حلف ألا يكلم إنسانا فأرسل وهو لا ينوي المشافهة وقت يمينه.
قوله تعالى: وكذلك أوحينا إليك المعنى: وبهذه الطرق ومن هذا الجنس أوحينا [ ص: 531 ] إليك، أي: كالرسل. و"الروح" في هذه الآية: القرآن وهدى الشريعة، سماه روحا من حيث يحيي به البشر والعالم، كما يحيي الجسد بالروح، فهذا على جهة التشبيه، وقوله تعالى: من أمرنا أي: واحد من أمورنا، ويحتمل أن يكون "الأمر" بمعنى الكلام، و"من" لابتداء الغاية، وقوله تعالى: و ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان توقيف على مقدار النعمة، والضمير في: "جعلناه" عائد على "الكتاب"، و"نهدي" معناه: نرشد، وقرأ جمهور الناس: "وإنك لتهدي" بفتح التاء وكسر الدال. وقرأ حوشب: "وإنك لتهدى" بضم التاء وفتح الدال على بناء الفعل للمفعول، وفي حرف "وإنك لتدعو" ، وهي تعضد قراءة الجمهور، وقرأ أبي: ابن السميفع، وعاصم الجحدري: "وإنك لتهدي" بضم التاء وكسر الدال.
وقوله تعالى: صراط الله يعني: صراط شرع الله تعالى ورحمته، فبهذا الوجه ونحوه من التقدير أضيف الصراط إلى الله تعالى، واستفتح تعالى القول في الإخبار بصيرورة الأمور إلى الله تعالى مبالغة وتحقيقا وتثبيتا، والأمور صائرة على الدوام إلى الله تعالى، ولكن جاءت هذه العبارة مستقبلة تقريعا لمن في ذهنه أن شيئا من الأمور إلى البشر، وقال سهل ابن أبي الجعد: احترق مصحف، فلم يبق منه إلا قوله تعالى: ألا إلى الله تصير الأمور .
كمل تفسير سورة الشورى والحمد لله رب العالمين.