وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين
المعنى: كانت رسالته وقوله: أن أدوا وألا تعلوا، وعبر بالعلو عن الطغيان والعتو على الله تعالى وعلى شرعه وعلى رسوله، وقرأ الجمهور: "إني آتيكم" بكسر الألف من "إني" على الإخبار المؤكد، والسلطان: الحجة، فكأنه قال: لا تكفروا، فإن الدليل المؤدي إلى الإيمان بين. وقرأت فرقة: "أني آتيكم" بفتح الألف. و "أن" في موضع نصب، بمعنى: لا تكفروا من أجل أني آتيكم بسلطان مبين، فكأن مقصد الكلام التوبيخ، كما تقول لإنسان: لا تغضب، لأن الحق قيل لك.
وقوله: وإني عذت الآية، كلام قاله موسى عليه السلام لخوف لحقه من فرعون وملئه و "عذت": معناه: استجرت وتحرمت، وأدغم الذال في التاء ، الأعرج ، واختلف الناس في قوله: وأبو عمرو "أن ترجمون" فقال وغيره: أراد الرجم بالحجارة المؤدي إلى القتل، وقال قتادة رضي الله عنهما، ابن عباس وأبو صالح : أراد الرجم بالقول من السباب والمخالفة ونحوه، والأول أظهر، لأنه أعيذ منه ولم يعذ من الآخر، بل قيل فيه عليه السلام وله، وقوله: تؤمنوا لي معناه: تؤمنوا بي، والمعنى: تصدقوا، وقوله: "فاعتزلون" متاركة صريحة. قال : أراد خلوا سبيلي. قتادة
وقوله تعالى: فدعا ربه قبله محذوف من الكلام، تقديره: فما كفوا عنه، بل تطرقوا إليه، وعتوا عليه وعلى دعوته فدعا ربه، وقرأ الحسن بن أبي الحسن، وابن أبي إسحاق ، : "إن هؤلاء" بكسر الألف من "إن"، على معنى: "قال إن"، وقرأ جمهور الناس، وعيسى أيضا: "أن هؤلاء" بفتح الألف، والقراءتان حسنتان، وحكم عليهم بالإجرام المضمن للكفر حين يئس منهم، وهنا أيضا محذوف من الكلام تقديره: فقال الله تعالى له: فأسر بعبادي، وهذا هو الأمر الذي أنفذه الله تعالى إلى والحسن موسى عليه السلام بالخروج من ديار مصر ببني إسرائيل، وقد تقدم شرحه وقصصه في سورة الأنبياء عليهم السلام وغيرها، وقرأ جمهور الناس: "فاسر" موصولة الألف، وقرأ: "فأسر" بقطع الألف [ ص: 575 ] الحسن، ، ورويت عن وعيسى ، وأعلمه تعالى بأنهم متبعون، أي: يتبعهم أبي عمرو فرعون وجنوده.
واختلف المفسرون في قوله تعالى: واترك البحر رهوا ، متى قالها سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام ؟ فقالت فرقة: هو كلام متصل، إنكم متبعون واترك البحر إذا انفرق لك رهوا، وقال وغيره: خوطب عليه السلام به بعد ما جاز البحر وخشي أن يدخل قتادة فرعون وقومه وراءه، وأن يخرجوا من المسالك التي خرج منها بنو إسرائيل، فهم موسى عليه السلام بأن يضرب البحر عسى أن يلتئم ويرجع إلى حاله، فقيل له عند ذلك: واترك البحر رهوا .
واختلفت عبارة المفسرين في تفسير الرهو، فقال ، مجاهد : معناه: يبسا، من قوله تعالى: وعكرمة فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا ، وقال : معناه: دمثا لينا. وقال الضحاك بن مزاحم أيضا: جردا. وقال عكرمة : سهلا. وقال ابن زيد رضي الله عنهما: معناه: ساكنا، أي: كما جزته، وهذا القول الأخير هو الذي تؤيده اللغة، فإن العيش الراهي هو الذي في خفض ودعة وسكون، حكاه ابن عباس وغيره، والرهو في اللغة هو هذا المعنى، ومنه قول المبرد عمير بن شييم القطامي:
يمشون رهوا فلا الأعجاز خاذلة ... ولا الصدور على الأعجاز تتكل
فإنما معناه: يمشين اتئادا وسكونا وتماهلا، ومنه قول الآخر:
[ ص: 576 ]
............................ ... أو أمة خرجت رهوا إلى عيد
أي: خرجوا في سكون وتماهل، فقيل لموسى عليه السلام: اترك البحر ساكنا على حاله من الافتراق ليقضي الله أمرا كان مفعولا، والرهو من أسماء الكركي الطائر، ولا مدخل له في تفسير هذه الآية، ويشبه عندي أن سمي رهوا لسكونه، وأنه أبدا على تماهل.
وقوله تعالى: كم تركوا الآية، قبله محذوف تقديره: فغرقوا وقطع الله دابرهم، ثم أخذ الله تعالى يعجب من كثرة ما تركوا من الأمور الرفيعة العظيمة في الدنيا، و "كم" خبر للتكثير، والجنات والعيون روي أنها كانت متصلة ضفتي النيل جميعا من رشيد إلى أسوان، وأما العيون فيحتمل أنه أراد الخلجان الخارجة من النيل فشبهها بالعيون، ويحتمل أنه كانت ثم عيون ونضبت، كما يعتري في كثير من بقاع الأرض، وقرأ ، قتادة ومحمد بن السميفع اليماني، -في رواية ونافع خارجة عنه-: "ومقام" بضم الميم، أي: موضع إقامة، وكذلك قرأ اليماني في كل القرآن إلا في مريم [ ص: 577 ] خير مقاما ، فكأن المعنى: كم تركوا من موضع حسن كريم في قدره ونفعه، وقرأ جمهور الناس، : ونافع "ومقام كريم" بفتح الميم، أي: موضع قيام، فعلى هذه القراءة قال ، ابن عباس ، ومجاهد : أراد المنابر، وعلى ضم الميم في: "مقام" قال وابن جبير : أراد المواضع الحسان من المساكن وغيرها، والقول بالمنابر بهي جدا. قتادة
و"النعمة" -بفتح النون-: غضارة العيش ولذاذة الحياة، و"النعمة" -بكسر النون-: أعم من هذا، لأن النعمة بالفتح هي من جملة النعم بالكسر، وقد تكون الأمراض والآلام والمصائب نعما، ولا يقال فيها نعمة بالفتح، وقرأ : "ونعمة" بالنصب، وقرأ جمهور الناس: "فاكهين" بمعنى: ناعمين. والفاكه: الطيب النفس، أو يكون بمعنى: أصحاب فاكهة كلابن وتامر، وقرأ أبو رجاء ، أبو رجاء -بخلاف عنه- والحسن "فكهين"، ومعناه قريب من الأول، لكن الفكه يستعمل كثيرا في المستخف المستهزئ، فكأنه ها هنا يقول: كانوا في هذه النعمة مستخفين بشكرها والمعرفة بحقها. وابن القعقاع:
وقوله تعالى: كذلك وأورثناها معناه: الأمر كذلك، وسماه وراثة من حيث كانت أشياء أناس وصلت إلى قوم آخرين من بعد موت الأولين، وهذه حقيقة الميراث في اللغة، وربطها الشرع بالنسب وغيره من أسباب الميراث، و"الآخرون": من ملك مصر بعد القبط، وقال : القوم الآخرون هم بنو إسرائيل، وهذا ضعيف، لأنه لم يرو في التواريخ أن بني إسرائيل رجعوا إلى قتادة مصر في شيء من ذلك الزمان ولا ملكوها قط، إلا أن يريد أنهم ورثوا نوعها في بلاد قتادة الشام، وقد ذكر عن الثعلبي أن بني إسرائيل رجعوا إلى الحسن مصر بعد هلاك فرعون.