تفسير سورة الجاثية
هذه السورة مكية لا خلاف في ذلك.
قوله عز وجل:
حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون
تقدم القول في الحروف المقطعة في أوائل السور، و"تنزيل" رفع بالابتداء أو على خبر ابتداء مضمر، و"العزيز": معناه: عام في شدة أخذه إذا انتقم، ودفاعه إذا حمي ونصر، وغير ذلك، و "الحكيم": المحكم للأشياء، وذكر تعالى الآيات التي في السماوات والأرض مجملة غير مفصلة، فكأنها إحالة على غوامض تثيرها الفكر، ويخبر بكثير منها الشرع، فلذلك جعلها للمؤمنين، إذ في ضمن الإيمان العقل والتصديق، ثم ذكر تعالى خلق البشر والحيوان وكأنه أغمض مما أحال عليه أولا وأكثر تلخيصا، فجعله للموقنين الذين لهم نظر يؤديهم إلى اليقين في معتقداتهم، ثم ذكر اختلاف الليل والنهار والعبرة بالمطر والرياح، فجعل ذلك لقوم يعقلون، إذ كل عاقل يحصل هذه ويفهم قدرها.
[ ص: 588 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وإن كان هذا النظر ليس بلازم ولابد، فإن اللفظ يعطيه.
و "يبث" معناه: ينشر في الأرض، والدابة: كل حيوان يدب، أو يمكن فيه أن يدب، يدخل في ذلك الطير والحوت، وشاهد الطير قول الشاعر:
....................... ... صواعقها لطيرهن دبيب
وقول الآخر:
........................ ... دبيب قطا البطحاء في كل منهل
وشاهد الحوت قول : "وقد ألقى البحر دابة مثل الظرب"، ودواب البحر لفظ مشهور في اللغة. أبي موسى
[ ص: 589 ] وقرأ ، حمزة : "آيات" بالنصب في الموضعين الآخرين. وهي قراءة والكسائي الجحدري، ، وقرأ الباقون والجمهور: والأعمش "آيات" بالرفع فيهما، فأما من قرأ بالنصب فحمل "آيات" في الموضعين على نصب "إن" في قوله تعالى: إن في السماوات والأرض لآيات ، ولا يعرض في ذلك العطف على عاملين الذي لا يجيزه وكثير من النحويين، لأنا نقدر "في" معادة في قوله تعالى: سيبويه واختلاف الليل والنهار ، وكذلك هي في مصحف : "وفي اختلاف" ، فكأنه تعالى قال -على قراءة الجمهور-: "وفي اختلاف الليل" ، وذلك أن ذكرها قد تقدم في قوله تعالى: ابن مسعود "وفي خلقكم" فلما تقدم ذكر الجار، جاز حذفه من الثاني، ويقدر مثبتا، كما قدر في قول الشاعر: سيبويه
أكل امرئ تحسبين امرأ ... ونار توقد بالليل نارا؟
أي: وكل نار، وكما قال الآخر:
أوصيت من برة قلبا حرا ... بالكلب خيرا والحماة شرا
[ ص: 590 ] أي: وبالحمأة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا الاعتراض كله إنما هو في "آيات" الثاني، لأن الأول قبله حرف الجر ظاهر، وفي قراءة ، أبي بن كعب رضي الله عنهما في الثلاثة المواضع: "لآيات" . قال وابن مسعود : وهذا يدل على أن الكلام محمول على "إن" في قراءة من أسقط اللامات في الاثنين الآخيرتين. أبو علي
وأما من رفع "آيات" في الموضعين، فوجهه العطف على موضع "إن" وما عملت فيه، لأن موضعها رفع بالابتداء، ووجه آخر وهو أن يكون قوله تعالى: وفي خلقكم وما يبث من دابة مستأنفا، ويكون الكلام جملة معطوفة على جملة، وقال بعض الناس: يجوز أن يكون جملة في موضع الحال فلا تكون غريبة على هذا.
و"اختلاف الليل والنهار" إما بالنور والظلام، وإما بكونهما خلفة، و"الرزق المنزل من السماء": هو المطر، سماه رزقا بمآله، لأن جميع ما يرتزق فعن المطر هو، و"تصريف الرياح": هو بكونها صبا ودبورا وجنوبا وشمالا، وأيضا فبكونها مرة رحمة ومرة عذابا، قاله ، وأيضا بلينها وشدتها وحرها وبردها ، وقرأ قتادة طلحة : "وتصريف الريح" بالإفراد، وكذلك في جميع القرآن إلا ما كان فيه مبشرات، وخالف وعيسى في الحجر فقرأ: "الرياح لواقح". عيسى
وقوله تعالى: تلك آيات الله إشارة إلى ما ذكر. وقوله: "نتلوها" فيه حذف مضاف، أي: نتلو شأنها وتفسيرها وشرح العبرة لها، ويحتمل أن يريد بـ "آيات الله": القرآن المنزل في هذه المعاني، فلا يكون في "نتلوها" حذف مضاف. وقوله: "بالحق" معناه: بالصدق والإعلام بحقائق الأمور في أنفسها. وقوله: فبأي حديث الآية توبيخ وتقريع، وفيه قوة التهديد.
وقرأ ، ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر ، والأعرج وشيبة ، [ ص: 591 ] : "يؤمنون" بالياء من تحت، وقرأ وقتادة ، ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي أيضا، وعاصم : "تؤمنون" بالتاء على مخاطبة الكفار. وقرأ والأعمش : "توقنون" بالتاء من فوق من اليقين. طلحة بن مصرف