تفسير سورة المنافقون
وهي مدنية بإجماع، وذلك أنها نزلت في غزوة بني المصطلق بسبب أن عبد الله بن أبي ابن سلول كان منه في تلك الغزوة أقوال، وكان له أتباع يقولون قوله، فنزلت السورة كلها بسبب ذلك، ذكر الله تعالى فيها ما تقدم من المنافقين من حلفهم وشهادتهم في الظاهر بالإيمان، وأنهم كذبة، وذكر تعالى فيها ما تأخر منهم ووقع في تلك الغزوة، وسيأتي بيان ذلك فصلا فصلا عند تفسير الآيات إن شاء الله تعالى.
قوله عز وجل:
إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون
فضح الله تعالى بهذه الآية سريرة المنافقين، وذلك أنهم كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: نشهد إنك لرسول الله، وهم في إخبارهم هذا كاذبون; لأن أن يخبر الإنسان بضد ما في قلبه، وكسرت الألف من "إن" في الثلاثة لدخول اللام المؤكدة في الخبر وذلك لا يكون مع المفتوحة، وقوله تعالى: "يشهد" وما جرى مجراها من أفعال اليقين والعلم تجاب بما يجاب به القسم، وهي بمنزلة القسم. حقيقة الكذب
وقرأ الناس: "أيمانهم" جمع يمين، وقرأ -بخلاف عنه-: [ ص: 308 ] "إيمانهم" بكسر الألف، أي: هذا الذي تظهرون، وهذا على حذف مضاف تقديره: إظهار، و"الجنة": ما يتستر به في الأجرام والمعاني، وقوله تعالى: "فصدوا" يحتمل أن يكون غير متعد، تقول: "صد زيد"، ويحتمل أن يكون متعديا كما قال: الحسن بن أبي الحسن
صددت الكأس عنا أم عمرو . . . . . . . . . . . . . . .
فالمعنى: صدوا غيرهم ممن كان يريد الإيمان، أو من المؤمنين في أن يقاتلوهم أو ينكروا عليهم، وتلك سبيل الله تعالى فيهم، وقد تقدم تفسير نظير هذه الآية.
وقوله تعالى: "ذلك" إشارة إلى فعل الله تعالى في فضيحتهم وتوبيخهم، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى سوء ما عملوا، فالمعنى: ساء عملهم أن كفروا بعد إيمانهم.
وقوله تعالى: "آمنوا ثم كفروا" إما أن يريد به: منهم من كان آمن ثم نافق بعد صحة من إيمانه، وقد كان هذا موجودا، وإما أن يريدهم كلهم، فالمعنى: ذلك بأنهم فسمى ذلك الإظهار إيمانا، وقرأ بعض القراء: "فطبع" بضم الطاء على بنائه للمفعول بغير إدغام، وأدغم أظهروا الإيمان ثم كفروا في باطن أمرهم، ، وقرأ أبو عمرو : "فطبع الله"، وعبر الله تعالى بالطبع عما خلق في قلوبهم من الريب والشك وختم عليهم به من الكفر والمصير إلى النار. الأعمش
وقوله تعالى: وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم، وإن يقولوا تسمع لقولهم توبيخ لهم: لأنهم كانوا رجالا أجمل شيء وأفصحه، فكان إذ لا أفهام لهم نافعة، ولا نظر يصيب، فذلك المنظر لا مخبر له كالخشب المسندة، إنما هي أجرام لا عقول لها، معتمدة على غيرها، [ ص: 309 ] لا تثبت بنفسها، ومنه قولهم: "تساند القوم" إذا اصطفوا وتقابلوا للقتال، وقد يحتمل أن يشبه اصطفافهم في الأندية باصطفاف الخشب المسندة، وخلوهم من الأفهام النافعة بخلو الخشب من ذلك، وقال رجل منظرهم يروق وقولهم يخلب، لكن الله تعالى جعلهم كالخشب المسندة رأيتني في النوم محتضنا خشبة، فقال لابن سيرين: : أظنك من أهل هذه الآية، وتلا: ابن سيرين كأنهم خشب مسندة .
وقرأ ، عكرمة وعطية: "يسمع" بالياء مضمومة، وقرأ ، نافع ، وابن عامر ، وحمزة : "خشب" بضم الخاء والشين، وقرأ وعاصم ، قنبل ، وأبو عمرو : "خشب" بضم الخاء وسكون الشين، وهي قراءة والكسائي رضي الله عنه، واختيار البراء بن عازب ابن عبيد، وقرأ ، سعيد بن جبير : "خشب" بفتح الخاء والشين، وذلك كله جمع "خشبة" بفتح الخاء والشين، فالقراءتان أولا كما تقول: بدنة وبدن وبدن، قاله وسعيد بن المسيب ، والأخيرة على الباب في ثمرة وثمر. سيبويه
عبد الله بن أبي من أبهى المنافقين وأطولهم، ويدل على ذلك أنه لم يوجد قميص يكسو وكان رضي الله عنه غير قميصه، وقد تقدم في سورة [البقرة] تحرير أمر المنافقين وكيف سترهم الإسلام. العباس
وقوله تعالى: يحسبون كل صيحة عليهم فضح أيضا لما كانوا يسرونه من الخوف، وذلك أنهم كانوا يتوقعون أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم -عن الله- بقتلهم، وقال : فكانوا متى سمعوا نشدان ضالة، أو صياحا بأي وجه كان، أو أخبروا بنزول وحي طارت قلوبهم وطاشت عقولهم حتى يسكن ذلك ويكون في غير شأنهم، وجرى هذا اللفظ مثلا في الخائف، ونحو قول الشاعر : مقاتل
يروعه السرار بكل أرض مخافة أن يكون به السرار
وقول جرير :
ما زلت تحسب كل شيء بعدهم خيلا تكر عليهم ورجالا
[ ص: 310 ] ثم أخبر تعالى بأنهم هم العدو، وحذر منهم، و"العدو" يقع للواحد وللجمع. وقوله تعالى: "قاتلهم الله" دعاء يتضمن الإقصاء والمنابذة، وتمني الشر لهم.
وقوله تعالى: "أنى يؤفكون" معناه: يصرفون، فيحتمل أن تكون "أنى" استفهاما، كأنه تعالى: قال كيف يصرفون؟ أو: لأي سبب لا يرون رشد أنفسهم؟ ويحتمل أن تكون "أنى" ظرفا لـ "قاتلهم" كأنه تعالى قال: قاتلهم الله كيف انصرفوا و صرفوا، فلا يكون في القول استفهام على هذا.