تفسير سورة الملك
وهي مكية بإجماع، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل ليلة عند أخذ مضجعه، رواه جماعة مرفوعا إلى عنه، وروي عنه أنه قال: جابر بن عبد الله "إنها لتنجي من عذاب القبر، وتجادل عن حافظها حتى لا يعذب"، ويروى أن في التوراة سورة الملك، من قرأها في ليلة فقد أجاد وأطيب، وروي عن رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ابن عباس "وددت أن سورة [تبارك الذي بيده الملك] في قلب كل مؤمن" .
قوله عز وجل:
تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير
"تبارك" تفاعل، من البركة، وهي التزيد في الخيرات، ولم يستعمل "يتبارك" [ ص: 351 ] ولا "متبارك". وقوله تعالى: "بيده الملك" عبارة عن تحقيق الملك، وذلك أن اليد في عرف الآدميين هي آلة التملك، فهي مستعارة لذلك، و"الملك" على الإطلاق هو الذي لا يبيد ولا يختل منه شيء، وذلك هو ملك الله تعالى، والمراد في هذه الآية: ملك الملوك، فهو بمنزلة قوله تعالى: الملك مالك قل اللهم ذكره عن الثعلبي ، وقوله تعالى: ابن عباس على كل شيء قدير عموم، فالشيء معناه في اللغة: الموجود.
و"الموت والحياة" معنيان يتعاقبان جسم الحيوان، يرتفع أحدهما بحلول الآخر، وما جاء في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: فقال أهل العلم: ذلك تمثال كبش يوقع الله تعالى عليه العلم الضروري لأهل الدارين إنه الموت الذي خافوه في الدنيا، ويكون ذلك التمثال حاملا للموت على أنه يحل الموت فيه، فتذهب عنه حياته، ثم يقرن الله تعالى بذبح ذلك التمثال إعدام الموت، وقوله تعالى: "يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح على الصراط"، خلق الموت والحياة ليبلوكم ، أي: ليختبركم في حال الحياة ويجازيكم بعد الموت، وقال -ونحوه عن أبو قتادة -: ابن عمر قلت يا رسول الله، ما معنى قوله تعالى: ليبلوكم أيكم أحسن عملا ؟ فقال: "يقول تعالى: أيكم أحسن عقلا، وأشد لله تعالى خوفا، وأحسنكم في أمره ونهيه نظرا وإن كانوا أقلكم تطوعا، وقال ، ابن عباس ، وسفيان الثوري أيكم أحسن عملا: أزهدكم في الدنيا. وقوله تعالى: "ليبلوكم" دال على فعل، تقديره: فينظر أو يعلم أيكم، وقال جماعة من المتأولين: الموت والحياة عبارة عن الدنيا والآخرة، سمى هذه موتا من حيث إن فيها الموت، وسمى تلك حياة من حيث [ ص: 352 ] لا موت فيها، فوصفهما بالمصدرين على تقدير حذف مضاف كعدل وزور، وقدم الموت في اللفظ لأنه متقدم في النفس هيبة وغلظة. والحسن بن أبي الحسن:
و"طباقا" قال : هو مصدر، وقيل: هو جمع طبقة أو جمع طبق مثل رحبة ورحاب أو جبل وجبال، والمعنى: بعضها فوق بعض، وقال الزجاج سمعت أعرابيا يذم رجلا فقال: شره طباق، وخيره غير باق، وما ذكر بعض المفسرين في السماوات أن بعضها من ذهب وفضة وياقوت ونحو هذا ضعيف كله ولم يثبت بذلك حديث، ولا يعلم أحد من البشر حقيقة لهذا. أبان بن تغلب:
وقوله تعالى: ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت معناه: من قلة تناسب، ومن خروج عن الاتفاق، والأمر المتفاوت هو الذي يجاوز الحدود التي له زيادة أو نقصا، وقرأ جمهور القراء: "من تفاوت"، وقرأ ، حمزة ، والكسائي ، وابن مسعود ، وعلقمة والأسود، ، وابن جبير ، وطلحة : "من تفوت" وهما بمعنى واحد، وقال بعض العلماء: "في خلق الرحمن" يعني به السماوات فقط، وهي التي تتضمن اللفظ، وإياها أراد بقوله تعالى: والأعمش هل ترى من فطور ، وإياها أراد بقوله تعالى: ينقلب إليك البصر الآية، قالوا: وإلا ففي الأرض فطور، وقال آخرون: "في خلق الرحمن" معني به جميع ما خلق الله تعالى من الأشياء فإنها لا تفاوت فيها ولا فطور جارية على غير إتقان، ومتى كانت فطور لا تفسد الشيء المخلوق من حيث هو ذلك الشيء بل هي إتقان فيه فليست تلك المرادة في الآية، وقال : أمر الله تعالى بالنظر إلى السماء وخلقها ثم أمر تعالى بالتكرير في النظر، وكذلك جميع المخلوقات متى نظرها ناظر ليرى فيها خللا أو نقصا فإن بصره ينقلب خاسئا حسيرا، "ورجع البصر" ترديده في الشيء المبصر. وقوله تعالى: "كرتين" معناه: مرتين، ونصبه على المصدر، و"الخاسئ": المبعد بذل عن شيء أراده وعرض عليه، ومنه الكلب الخاسئ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم منذر بن سعيد لابن صياد: ومنه قوله تعالى في الكفار [ ص: 353 ] الحريصين على الخروج من جهنم: "اخسئوا فيها"، وكذلك هنا البصر يحرص على روية فطور أو تفاوت فلا يجد ذلك، فينقلب خاسئا، و"الحسير": العيي الكال، ومنه قول الشاعر: "اخسأ فلن تعدو قدرك"،
لهن الوجى أن كن عونا على النوى ولا زال منها ظالع وحسير