فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما
قال قوله: "فلا" رد على ما تقدم، تقديره: فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، ثم استأنف القسم بقوله: الطبري: وربك لا يؤمنون .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وقال غيره: إنما قدم "لا" على القسم اهتماما بالنفي، وإظهارا لقوته، ثم كررها بعده تأكيدا للتهمم بالنفي، وكان يصح إسقاط "لا" الثانية، ويبقى أكثر الاهتمام بتقديم الأولى، وكان يصح إسقاط الأولى ويبقى معنى النفي، ويذهب معنى الاهتمام.
[ ص: 595 ] "شجر" معناه: اختلط والتف من أمورهم، وهو من الشجر، شبيه بالتفاف الأغصان، وكذلك الشجير الذي امتزجت مودته بمودة صاحبه، وقرأ أبو السمال: "شجر" بإسكان الجيم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وأظنه فر من توالي الحركات، وليس بالقوي، لخفة الفتحة.
و"يحكموك" نصب بـ "حتى" لأنها هاهنا غاية مجردة، و"يجدوا" عطف عليه، والحرج: الضيق والتكلف والمشقة. قال حرجا: شكا وقوله: "تسليما" مصدر مؤكد منبئ على التحقيق في التسليم، لأن مجاهد: العرب إنما تردف الفعل بالمصدر إذا أرادت أن الفعل وقع حقيقة، كما قال تعالى: وكلم الله موسى تكليما وقد تجيء به مبالغة وإن لم يقع، ومنه:
. . . . . . . . . . . . . . . . . وعجت عجيجا من جذام المطارف.
وقال وغيره: المراد بهذه الآية من تقدم ذكره ممن أراد التحاكم إلى الطاغوت، وفيهم نزلت، ورجح مجاهد هذا، لأنه أشبه بنسق الآية. وقالت طائفة: نزلت في الطبري في السقي بماء الزبير بن العوام الحرة، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك"، فغضب ذلك الرجل وقال: آن كان ابن [ ص: 596 ] عمتك؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستوعب للزبير حقه، فقال: "احبس يا زبير الماء حتى يبلغ الجدر، ثم أرسل الماء"، فنزلت الآية. واختلف أهل هذا القول في الرجل، فقال قوم: هو رجل من رجل خاصم الأنصار من أهل بدر، وقال وغيره: هو مكي حاطب بن أبي بلتعة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والصحيح الذي وقع في أنه رجل من البخاري الأنصار، وأن قال: فما أحسب أن هذه الآية نزلت إلا في ذلك، وقالت طائفة: لما قتل الزبير الرجل المنافق الذي لم يرض بحكم النبي صلى الله عليه وسلم بلغ ذلك النبي وعظم عليه، وقال: "ما كنت أظن أن عمر يجترئ على قتل رجل مؤمن"، فنزلت الآية نافية لإيمان ذلك الرجل الراد لحكم النبي عليه الصلاة والسلام، مقيمة عذر عمر في قتله. عمر بن الخطاب
و"كتبنا" معناه: فرضنا، و"اقتلوا أنفسكم" معناه: ليقتل بعضكم بعضا، وقد تقدم نظيره في البقرة، وضم النون من "أن" وكسرها جائز، وكذلك الواو من "أو اخرجوا"، وبضمها قرأ ابن عامر، ونافع، وابن كثير، وبكسرها قرأ والكسائي. حمزة وكسر وعاصم، النون وضم الواو، و"قليل" رفع على البدل من الضمير في "فعلوه"، وقرأ أبو عمرو وحده بالنصب "إلا قليلا" ، وذلك جائز، أجرى النفي مجرى الإيجاب. ابن عامر
وسبب الآية على ما حكي أن اليهود قالوا، -لما لم يرض المنافق بحكم النبي عليه الصلاة والسلام- ما رأينا أسخف من هؤلاء، يؤمنون بمحمد ويتبعونه، ويطؤون عقبه، ثم لا يرضون بحكمه، ونحن قد أمرنا بقتل أنفسنا ففعلنا، وبلغ القتل فينا [ ص: 597 ] سبعين ألفا، فقال لو كتب ذلك علينا لفعلناه، فنزلت الآية معلمة حال أولئك المنافقين، وأنه لو كتب ذلك على الأمة لم يفعلوه، وما كان يفعله إلا قليل مؤمنون محققون، كثابت وغيره، وكذلك روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثابت بن قيس: "ثابت بن قيس، عمار من القليل"، وابن مسعود وشركهم في ضمير "منهم" لما كان المنافقون والمؤمنون مشتركين في دعوة الإسلام وظواهر الشريعة. وقال أبو إسحاق السبيعي: لما نزلت: ولو أنا كتبنا عليهم الآية، قال رجل: لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن من أمتي رجالا، الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي". وذكر أن الرجل هو مكي رضي الله عنه. وذكر أبو بكر الصديق أنه النقاش رضي الله عنه، وذكر عن عمر بن الخطاب أنه قال: لو كتب علينا لبدأت بنفسي وبأهل بيتي. أبي بكر
وقوله تعالى: ولو أنهم فعلوا أي: لو أن هؤلاء المنافقين اتعظوا وأنابوا لكان خيرا لهم. "تثبيتا" معناه: يقينا وتصديقا ونحو هذا، أي: يثبتهم الله.
ثم ذكر تعالى ما كان يمن به عليهم من تفضله بالأجر. ووصفه إياه بالعظم مقتض ما لا يحصله بشر من النعيم المقيم. والصراط المستقيم: الإيمان المؤدي إلى الجنة. وجاء ترتيب هذه الآية كذا، ومعلوم أن الهداية قبل إعطاء الأجر لأن المقصد إنما هو تعديد ما كان الله ينعم به عليهم دون ترتيب، فالمعنى: ولهديناهم قبل حتى يكونوا ممن يؤتى الأجر.