تفسير سورة النساء
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
هذه السورة مدنية، إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح في وهي قوله: عثمان بن طلحة إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها قال وقيل نزلت السورة عند هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من النقاش: مكة إلى المدينة المنورة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وقد قال بعض الناس: إن قوله تعالى: ( يا أيها الناس ) حيث وقع إنما هو مكي، فيشبه أن يكون صدر هذه السورة مكيا، وما نزل بعد الهجرة فإنما هو مدني وإن نزل في مكة أو في سفر من أسفار النبي عليه السلام، وقال النحاس: هذه السورة مكية.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ولا خلاف أن فيها ما نزل بالمدينة، وفي آخر آية نزلت: البخاري: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ، ذكرها في تفسير سورة [براءة] من رواية وفي البراء بن عازب. البخاري عن أنها قالت: ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعني قد بنى بها. عائشة
قوله عز وجل:
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا
[ ص: 460 ] "يا" حرف نداء، و "أي" منادى مفرد، و "ها" تنبيه، و"الناس" نعت لأي، أو صلة على مذهب والرب: المالك. وفي الآية تنبيه على الصانع وعلى افتتاح الوجود، وفيها حض على التواصل لحرمة هذا النسب وإن بعد، وقال: "واحدة"، على تأنيث لفظ النفس، وهذا كقول الشاعر: أبي الحسن الأخفش.
أبوك خليفة ولدته أخرى وأنت خليفة ذاك الكمال
وقرأ "من نفس واحد" بغير هاء، وهذا على مراعاة المعنى، إذ المراد بالنفس: ابن أبي عبلة: آدم صلى الله عليه وسلم، قاله مجاهد وغيرهما. وقتادة
والخلق في الآية: بمعنى الاختراع، ويعني بقوله: "زوجها" حواء، والزوج في كلام العرب: امرأة الرجل، ويقال زوجة، ومنه بيت أبي فراس:
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
وقوله: "منها"، قال ابن عباس ومجاهد والسدي إن الله تعالى خلق وقتادة: آدم وحشا في الجنة وحده، ثم نام فانتزع الله أحد أضلاعه القصيرى من شماله، وقيل: من يمينه فخلق منه حواء، ويعضد هذا القول الحديث الصحيح في قوله عليه السلام: وقال بعضهم: معنى "منها" من جنسها، واللفظ يتناول المعنيين، أو يكون لحمها وجواهرها من ضلعه، ونفسها من جنس نفسه. "إن المرأة خلقت من ضلع، فإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها".
"وبث" معناه: نشر، كقوله تعالى: كالفراش المبثوث أي: المنتشر. وحصره ذريتها إلى نوعين: الرجال والنساء مقتض أن الخنثى ليس بنوع، وأنه وإن [ ص: 461 ] فرضناه مشكل الظاهر عندنا، فله حقيقة ترده إلى أحد هذين النوعين. وفي تكرار الأمر بالاتقاء تأكيد وتنبيه لنفوس المأمورين.
و"الذي" في موضع نصب على النعت، و"تساءلون" معناه: تتعاطفون به، فيقول أحدكم:
أسألك بالله أن تفعل كذا وما أشبهه; وقالت طائفة معناه: تساءلون به حقوقكم وتجعلونه مقطعا لها، وأصله:
تتساءلون ، فأبدلت التاء الثانية سينا وأدغمت في السين، وهذه قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وابن عمرو، بخلاف عنه. وقرأ الباقون: "تساءلون" بسين مخففة، ذلك لأنهم حذفوا التاء الثانية تخفيفا، فهذه تاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى لاجتماع حروف متقاربة. قال وإذا اجتمعت المتقاربة خففت بالحذف والإدغام والإبدال، كما قالوا: طست، فأبدلوا من السين الواحدة تاء، إذ الأصل طس، قال أبو علي: العجاج:
لو عرضت لأيبلي قس أشعث في هيكله مندس
حن إليها كحنين الطس
وقال "تسلون" خفيفة بغير ألف، "والأرحام" نصب على العطف على موضع "به" لأن موضعه نصب، والأظهر أنه نصب بإضمار فعل تقديره: واتقوا الأرحام أن تقطعها، وهذه قراءة السبعة إلا ابن مسعود: وعليها فسر حمزة، وغيره. وقرأ ابن عباس عبد الله بن يزيد "والأرحام" بالرفع، وذلك على الابتداء والخبر مقدر، تقديره: والأرحام أهل أن توصل، وقرأ وجماعة من العلماء: "والأرحام" بالخفض عطفا على الضمير، والمعنى عندهم: إنها يتساءل بها كما يقول الرجل: أسألك بالله وبالرحم، هكذا فسرها حمزة الحسن وإبراهيم النخعي وهذه القراءة عند رؤساء نحويي ومجاهد. البصرة لا تجوز، لأنه لا يجوز عندهم أن يعطف ظاهر على مضمر مخفوض، قال عن الزجاج المازني: لأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان يحل كل واحد منهما محل صاحبه، فكما لا يجوز: مررت بزيدوك، فكذلك لا يجوز مررت بك وزيد. وأما فهي عنده قبيحة لا تجوز إلا في الشعر، كما قال: سيبويه
فاليوم قد بت تهجونا وتشتمنا فاذهب فما بك والأيام من عجب
[ ص: 462 ] وكما قال:
نعلق في مثل السواري سيوفنا وما بينها والكعب غوط نفانف
واستسهلها بعض النحويين، قال ذلك ضعيف في القياس. أبو علي:
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
المضمر المخفوض لا ينفصل فهو كحرف من الكلمة، ولا يعطف على حرف، ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان: أحدهما أن ذكر "الأرحام" فيما يتساءل به لا معنى له في الحض على تقوى الله، ولا فائدة فيه أكثر من الإخبار بأن الأرحام يتساءل بها، وهذا تفرق في معنى الكلام وغض من فصاحته، وإنما الفصاحة في أن يكون لذكر الأرحام فائدة مستقلة. والوجه الثاني أن في ذكرها على ذلك تقريرا للتساؤل بها والقسم بحرمتها، والحديث الصحيح يرد ذلك في قوله عليه السلام: وقالت طائفة: إنما خفض "والأرحام" على جهة القسم من الله على ما اختص به لا إله إلا هو من القسم بمخلوقاته، ويكون المقسم عليه فيما بعد من قوله: "إن الله كان عليكم رقيبا"، وهذا كلام يأباه نظم الكلام وسرده، وإن كان المعنى يخرجه. "من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت"،
و"كان" في هذه الآية ليست لتحديد الماضي فقط، بل المعنى: كان وهو يكون. والرقيب: بناء لاسم الفاعل من رقب يرقب إذا أحد النظر بالبصر أو بالبصيرة إلى أمر ما ليتحققه على ما هو عليه، ويقترن بذلك حفظ ومشاهدة وعلم بالحاصل عن الرقبة. وفي قوله "عليكم" ضرب من الوعيد، ولم يقل "لكم" للاشتراك الذي كان يدخل من أنه يرقب لهم ما يصنع غيرهم. ومما ذكرناه قيل للذي يرقب خروج السهم من ربابة [ ص: 463 ] الضريب في القداح: رقيب، لأنه يرتقب ذلك، ومنه قول أبي داود:
كمقاعد الرقباء للضـ ـرباء أيديهم نواهد