قوله تعالى:
ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا
لما وصف الله تعالى فيما تقدم صفة المحقين في المتاركة، المجدين في إلقاء السلم، نبه على طائفة مخادعة مبطلة مبطنة كانوا يريدون الإقامة في مواضعهم مع أهليهم، يقولون لهم: نحن معكم وعلى دينكم، ويقولون أيضا للمسلمين إذا وفدوا وأرسلوا: نحن معكم وعلى دينكم خبثة منهم وخديعة، قيل: كانت أسد وغطفان بهذه الصفة، وقيل: نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي، كان ينقل بين النبي عليه الصلاة والسلام والكفار الأخبار، وقيل: نزلت في قوم يجيئون من مكة إلى النبي عليه الصلاة والسلام رياء، يظهرون الإسلام، ثم يرجعون إلى قريش فيكفرون، ففضح الله تعالى هؤلاء، وأعلم أنهم على غير صفة من تقدم.
وقوله: "إلى الفتنة" معناه: إلى الاختبار، حكي أنهم كانوا يرجعون إلى قومهم فيقال لأحدهم: ربي الخنفساء، وربي العود، وربي العقرب، ونحوه، فيقولها، [ ص: 626 ] ومعنى "أركسوا" رجعوا رجع ضلالة، أي: أهلكوا في الاختيار بما واقعوه من الكفر، وقرأ "ركسوا" بضم الراء من غير ألف، وحكاه عنه عبد الله بن مسعود، أبو الفتح بشد الكاف على التضعيف، والخلاف في "السلم" حسبما تقدم. هذه الآية حض على قتل هؤلاء المخادعين إذا لم يرجعوا عن حالهم إلى حال الآخرين المعتزلين الملقين للسلم.
قال رحمه الله: القاضي أبو محمد عبد الحق
وتأمل فصاحة الكلام في أن سياقه في الصيغة المتقدمة قبل هذه سياق إيجاب الاعتزال، وإيجاب إلقاء السلم، ونفي المقاتلة إذ كانوا محقين في ذلك معتقدين له، وسياقه في هذه الصيغة المتأخرة سياق نفي الاعتزال، ونفي إلقاء السلم إذ كانوا مبطلين فيه مخادعين، والحكم سواء على السياقين، لأن الذين لم يجعل الله عليهم سبيلا لو لم يعتزلوا لكان حكمهم حكم هؤلاء الذين جعل عليهم سلطان مبين ، وكذلك هؤلاء الذين عليهم السلطان إذ لم يعتزلوا، لو اعتزلوا لكان حكمهم حكم الذين لا سبيل عليهم، ولكنهم بهذه العبارة تحت القتل إن لم يعتزلوا.
و"ثقفتموهم" مأخوذ من الثقاف، أي: ظفرتم بهم مغلوبين متمكنا منهم، والسلطان: الحجة. قال حيثما وقع السلطان في كتاب الله تعالى فهو الحجة. عكرمة: