وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون
"بشر" مأخوذ من البشرة، لأن ما يبشر به الإنسان من خير أو شر يظهر عنه أثر في بشرة الوجه، والأغلب استعمال البشارة في الخير، وقد تستعمل في الشر مقيدة به، منصوصا على الشر المبشر به، كما قال تعالى: فبشرهم بعذاب أليم ، ومتى أطلق لفظ البشارة فإنما يحمل على الخير.
وفي قوله تعالى: وعملوا الصالحات رد على من يقول إن لفظة الإيمان بمجردها تقتضي الطاعات، لأنه لو كان ذلك ما أعادها. "أن" في موضع نصب ب "بشر"، وقيل: في موضع خفض على تقدير باء الجر. و"جنات" جمع جنة، وهي بستان [ ص: 151 ] الشجر والنخيل، وبستان الكرم يقال له: الفردوس، وسميت جنة لأنها تجن من دخلها أي: تستره، ومنه المجن والجنن وجن الليل.
و من تحتها معناه: من تحت الأشجار التي يتضمنها ذكر الجنة، وقيل: قوله من تحتها معناه: بإزائها كما تقول: داري تحت دار فلان. وهذا ضعيف، و"الأنهار" المياه في مجاريها المتطاولة الواسعة، لأنها لفظة مأخوذة من أنهرت أي وسعت، ومنه قول قيس بن الخطيم :
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائم من دونها ما وراءها
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: معناه ما وسع الذبح حتى جرى الدم كالنهر، ونسب الجري إلى النهر وإنما يجري الماء وحده تجوزا، كما قال: ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فكلوه واسأل القرية ، وكما قال الشاعر:نبئت أن النار بعدك أوقدت واستب بعدك يا كليب المجلس
وقوله: "كلما": ظرف يقتضي الحصر.
وفي هذه الآية رد على من يقول: إن الرزق من شروطه التملك، ذكر هذا بعض الأصوليين، وليس عندي ببين.
[ ص: 152 ] وقولهم "هذا" إشارة إلى الجنس، أي: هذا من الجنس الذي رزقنا منه من قبل، والكلام يحتمل أن يكون تعجبا، وهو قول . ويحتمل أن يكون خبرا من بعضهم لبعض، قاله جماعة من المفسرين. وقال ابن عباس الحسن : يرزقون الثمرة، ثم يرزقون بعدها مثل صورتها. والطعم مختلف، فهم يتعجبون لذلك، ويخبر بعضهم بعضا. وقال ومجاهد : ليس في الجنة شيء مما في الدنيا سوى الأسماء، وأما الذوات فمتباينة، وقال بعض المتأولين: المعنى أنهم يرون الثمر فيميزون أجناسه، حين أشبه منظره ما كان في الدنيا، فيقولون: هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا. ابن عباس
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقول الذي قبل هذا يرد على هذا القول بعض الرد. وقال بعض المفسرين: المعنى هذا الذي وعدنا به في الدنيا، فكأنهم قد رزقوه في الدنيا إذ وعد الله منتجز. وقال قوم: إن ثمر الجنة إذا قطف منه شيء خرج في الحين في موضعه مثله، فهذا إشارة إلى الخارج في موضع المجني، وقرأ جمهور الناس "وأتوا" بضم الهمزة، وضم التاء، وقرأ ابن عباس هارون الأعور : "وأتوا" بفتح الهمزة والتاء، والفاعل على هذه القراءة الولدان والخدام، و "أتوا" على قراءة الجماعة أصله أتيوا نقلت حركة الياء إلى التاء، ثم حذفت الياء للالتقاء.
وقوله تعالى: "متشابها" قال ، ابن عباس ، ومجاهد ، وغيرهم، معناه: يشبه بعضه بعضا في المنظر، ويختلف في الطعم، وقال والحسن : معناه يشبه ثمر الدنيا في المنظر، ويباينه في جل الصفات، وقال عكرمة : "متشابها": معناه خيارا لا رذل فيه، كقوله تعالى: قتادة كتابا متشابها .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: كأنه يريد متناسبا في أن كل صنف هو أعلى جنسه، فهذا تشابه ما، وقيل "متشابها" أي مع ثمر الدنيا في الأسماء، لا في غير ذلك [ ص: 153 ] من هيئة وطعم، و"أزواج" جمع زوج، والمرأة زوج الرجل، والرجل زوج المرأة، ويقال في المرأة: زوجة، ومنه قول : الفرزدق
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي كساع إلى أسد الشرى يستبيلها