ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما
ذكر الله - عز وجل - سعة ملكه؛ وإحاطته بكل شيء؛ عقب ذكر الدين؛ وتبيين الجادة منه؛ ترغيبا في طاعة الله ؛ والانقطاع إليه.
وقوله تعالى : "ويستفتونك"؛ نزلت بسبب سؤال قوم من الصحابة عن أمر النساء؛ وأحكامهن في المواريث؛ وغير ذلك؛ فأمر الله نبيه أن يقول لهم: الله يفتيكم فيهن ؛ أي: يبين لكم حكم ما سألتم عنه؛ وقوله تعالى : وما يتلى عليكم يحتمل و "ما" أن تكون في موضع خفض؛ عطفا على الضمير في قوله: "فيهن"؛ أي: ويفتيكم فيما يتلى عليكم؛ قاله محمد بن أبي موسى ؛ وقال: أفتاهم الله فيما سألوا عنه؛ وفيما لم يسألوا عنه؛ ويضعف هذا التأويل ما فيه من العطف على الضمير المخفوض بغير إعادة حرف الخفض؛ ويحتمل أن تكون و "ما" في موضع رفع؛ عطفا على اسم الله - عز وجل -؛ أي: ويفتيكم ما يتلى عليكم في الكتاب؛ يعني القرآن؛ والإشارة بهذا إلى ما تقدم من الآيات في أمر النساء؛ وهو قوله تعالى - في صدر السورة -: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ؛ الآية؛ - رضي الله عنها -: نزلت هذه الآية أولا؛ ثم سأل ناس بعدها رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - عن أمر النساء؛ فنزلت: [ ص: 33 ] عائشة ويستفتونك في النساء؛ قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم ؛ وقوله تعالى : قالت في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن ؛ معناه النهي عما كانت العرب تفعله من ضم اليتيمة الجميلة الغنية بدون ما تستحقه من المهر؛ ومن عضل الدميمة الفقيرة أبدا؛ والدميمة الغنية؛ حتى تموت؛ فيرثها العاضل؛ ونحو هذا مما يقصد به الولي منفعة نفسه؛ لا نفع اليتيمة؛ والذي كتب الله لهن: هو توفية ما تستحقه من مهر؛ وإلحاقها بأقرانها.
وقرأ أبو عبد الله المدني: "في ييامى النساء"؛ بياءين؛ قال أبو الفتح: والقول في هذه القراءة أنه أراد "أيامى"؛ فقلبت الهمزة ياء؛ كما قلبت في قولهم: "باهلة بن يعصر"؛ وإنما هو "ابن أعصر"؛ لأنه إنما يسمى بقوله:
أبني إن أباك غير لونه ... كر الليالي واختلاف الأعصر
وكما قلبت الياء همزة في قولهم: "قطع الله أده"؛ يريدون: "يده"؛ و"أيامى": جمع "أيم"؛ أصله: "أيايم"؛ قلبت اللام موضع العين؛ فجاء: "أيامى"؛ ثم أبدلت من الكسرة فتحة؛ ومن الياء ألف.
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -:
"يشبه أن الداعي إلى هذا استثقال الضمة على الياء"؛ قال أبو الفتح: ولو قال قائل: كسر "أيم" على "أيمى"؛ على وزن "سكرى"؛ و"قتلى"؛ من حيث الأيومة بلية تدخل كرها؛ ثم كسر "أيمى" على "أيامى"؛ لكان وجها حسنا.
وقوله تعالى : وترغبون أن تنكحوهن ؛ إن كانت الجارية غنية جميلة فالرغبة في نكاحها؛ وإن كانت بالعكس فالرغبة عن نكاحها؛ وكان - رضي الله [ ص: 34 ] عنه - يأخذ الناس بالدرجة الفضلى في هذا المعنى؛ فكان إذا سأل الولي عن وليته فقيل: هي غنية جميلة؛ قال له: "اطلب لها من هو خير منك وأعود عليها بالنفع"؛ وإذا قيل له: هي دميمة فقيرة؛ قال له: "أنت أولى بها؛ وبالستر عليها؛ من غيرك". عمر بن الخطاب
وقوله تعالى والمستضعفين من الولدان ؛ عطف على: يتامى النساء ؛ والذي تلي في المستضعفين من الولدان هو قوله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم ؛ وذلك أن العرب كانت لا تورث الصبية؛ ولا الصبي الصغير؛ وكان الكبير ينفرد بالمال؛ وكانوا يقولون: إنما يرث المال من يحمي الحوزة؛ ويرد الغنيمة؛ ويقاتل عن الحريم؛ ففرض الله لكل واحد حقه.
وقوله تعالى : وأن تقوموا لليتامى بالقسط ؛ عطف أيضا على ما تقدم؛ والذي تلي في هذا المعنى هو قوله تعالى : ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ؛ إلى غير ذلك مما ذكر في مال اليتيم؛ و"القسط": العدل؛ وباقي الآية وعد على فعل الخير بالجزاء الجميل؛ بين.