الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم
النقض: رد ما أبرم على أوله غير مبرم. والعهد في هذه الآية: التقدم في الشيء والوصاية به.
واختلف في تفسير هذا العهد، فقال بعض المتأولين: هو الذي أخذه الله على بني [ ص: 159 ] آدم حين استخرجهم من ظهر أبيهم آدم كالذر، وقال آخرون: بل: نصب الأدلة على وحدانية الله بالسماوات والأرض وسائر الصنعة هو بمنزلة العهد. وقال آخرون: بل هذا العهد هو الذي أخذه الله على عباده بواسطة رسله: أن يوحدوه، وألا يعبدوا غيره. وقال آخرون: بل هذا العهد هو الذي أخذه الله على اتباع الرسل والكتب المنزلة: أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن لا يكتموا أمره.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
فالآية على هذا في أهل الكتاب، وظاهر ما قبل وبعد أنه في جميع الكفار. وقال : هذه الآية هي فيمن كان آمن بالنبي عليه السلام ثم كفر به فنقض العهد. قتادة
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: لم ينسب شيئا من هذه الأقوال. الطبري
بهذه الآية. والضمير في "ميثاقه" يحتمل العودة على "العهد"، أو على (اسم الله تعالى)، و"ميثاق" مفعال من الوثاقة، وهي الشد في العقد والربط ونحوه، وهو في هذه الآية اسم في موضع المصدر، كما قال وكل عهد جائز بين المسلمين فنقضه لا يحل عمرو بن شبيم :
أكفرا بعد رد الموت عني وبعد عطائك المائة الرتاعا؟
أراد بعد إعطائك.وقوله تعالى: ما أمر الله به أن يوصل . "ما" في موضع نصب ب "يقطعون"، واختلف ما الشيء الذي أمر بوصله، فقال : الأرحام عامة في الناس، وقال غيره: خاصة فيمن آمن قتادة بمحمد ، كأن الكفار يقطعون أرحامهم. وقال جمهور أهل العلم: الإشارة في [ ص: 160 ] هذه الآية إلى دين الله وعبادته في الأرض، وإقامة شرائعه، وحفظ حدوده. وهذا هو الحق، والرحم جزء من هذا، و"أن" في موضع نصب بدل من "ما"، أو مفعول من أجله، وقيل: "أن" في موضع خفض بدل من الضمير في "به"، وهذا متجه.
ويفسدون في الأرض يعبدون غير الله، ويجورون في الأفعال إذ هي بحسب شهواتهم، و"الخاسر": الذي نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز. والخسران: النقص كان في ميزان أو غيره.
وقوله تعالى: كيف تكفرون لفظه الاستفهام، وليس به، بل هو تقرير وتوبيخ. أي: كيف تكفرون بالله ونعمه عليكم وقدرته هذه؟ و"كيف" في موضع نصب على الحال، والعامل فيها "تكفرون"، وتقديرها: أجاحدين تكفرون؟ أمنكرين تكفرون؟ و"كيف" مبنية، وخصت بالفتح لخفته. ومن قال: إن "كيف" تقرير وتعجب، فمعناه: إن هذا الأمر إن عن فحقه أن يتعجب منه لغرابته وبعده عن المألوف من شكر المنعم، و"الواو" في قوله: "وكنتم" واو الحال.
واختلف في ترتيب هاتين الموتتين والحياتين، فقال ، ابن عباس ، وابن مسعود : فالمعنى كنتم أمواتا معدومين قبل أن تخلقوا دارسين، كما يقال للشيء الدارس: ميت. ثم خلقتم وأخرجتم إلى الدنيا فأحياكم، ثم أماتكم الموت المعهود، ثم يحييكم للبعث يوم القيامة. ومجاهد
وقال آخرون: "كنتم أمواتا" بكون آدم من طين ميتا قبل أن يحيا، ثم نفخ فيه الروح فأحياكم بحياة آدم ، ثم يميتكم، ثم يحييكم على ما تقدم. وقال : "كنتم أمواتا" في أصلاب آبائكم، فأخرجتم إلى الدنيا، فأحياكم، ثم كما تقدم. وقال غيره: "كنتم أمواتا" [ ص: 161 ] في الأرحام قبل نفخ الروح، ثم أحياكم بالخروج إلى الدنيا، ثم كما تقدم. قتادة
وقال : إن الله تعالى أخرج نسم بني آدم أمثال الذر، ثم أماتهم بعد ذلك فهو قوله: ابن زيد وكنتم أمواتا ، ثم أحياهم بالإخراج إلى الدنيا، ثم كما تقدم. وقال ، ابن عباس وأبو صالح : "كنتم أمواتا" بالموت المعهود، ثم أحياكم للسؤال في القبور، ثم أماتكم فيها، ثم أحياكم للبعث، وروي عن أيضا أنه قال: وكنتم أمواتا بالخمول، فأحياكم بأن ذكرتم وشرفتم بهذا الدين والنبي الذي جاءكم. ابن عباس
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والقول الأول هو أولى هذه الأقوال، لأنه الذي لا محيد للكفار عن الإقرار به في أول ترتيبه. ثم إن قوله أولا: ( كنتم أمواتا ) وإسناده آخرا الإماتة إليه تبارك وتعالى مما يقوي ذلك القول، وإذا أذعنت نفوس الكفار لكونهم أمواتا معدومين، ثم للإحياء في الدنيا، ثم للإماتة فيها قوي عليهم لزوم الإحياء الآخر، وجاء جحدهم له دعوى لا حجة عليها.
والضمير في "إليه" عائد على الله تعالى، أي إلى ثوابه أو عقابه، وقيل: هو عائد على الأحياء، والأول أظهر.
وقرأ جمهور الناس: "ترجعون" بضم التاء وفتح الجيم، وقرأ ابن أبي إسحاق ، وابن محيصن ، وابن يعمر وسلام ، والفياض بن غزوان ، : "يرجعون، وترجعون" بفتح الياء والتاء حيث وقع. ويعقوب الحضرمي
و"خلق" معناه: اخترع وأوجد بعد العدم، وقد يقال في الإنسان خلق بعد إنشائه شيئا، ومنه قول الشاعر:
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ـض القوم يخلق ثم لا يفري
من كان يخلق ما يقو ل فحيلتي فيه قليلة
وقوله تعالى: ثم استوى ، ثم هنا: هي لترتيب الأخبار، لا لترتيب الأمر في نفسه، [ ص: 163 ] و"استوى": قال قوم معناه: علا دون تكييف ولا تحديد، هذا اختيار ، والتقدير: علا أمره وقدرته وسلطانه، وقال الطبري : معناه قصد إلى السماء، أي بخلقه واختراعه، وقيل: معناه كمل صنعه فيها، كما تقول استوى الأمر. ابن كيسان
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قلق.
وحكى عن قوم أن المعنى أقبل، وضعفه. الطبري
وحكي عن قوم أن المستوي هو الدخان، وهذا أيضا يأباه رصف الكلام. وقيل المعنى: استولى، كما قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
و"سواهن"، قيل: المعنى جعلهن سواء، وقيل: سوى سطوحها بالإملاس و"سبع" نصب على البدل من الضمير، أو على المفعول بـ "سوى"، بتقدير حذف الجار من الضمير، كأنه قال: فسوى منهن سبعا. وقيل: نصب على الحال، وقال: "سواهن" إما على أن السماء جمع، وإما على أنه مفرد اسم جنس، فهو دال على الجمع.
وقوله تعالى: وهو بكل شيء عليم معناه: بالموجودات، وتحقق علمه بالمعدومات من آيات أخر.
[ ص: 164 ] وهذه الآية تقتضي أن وذلك صحيح، ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء، وبهذا تتفق معاني الآيات هذه والتي في سورة (المؤمن) وفي (النازعات). الأرض وما فيها خلق قبل السماء،