قوله تعالى :
وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا
هذه الآية؛ والتي قبلها؛ عدد الله تعالى فيها أقوال بني إسرائيل؛ وأفعالهم؛ على اختلاف الأزمان؛ وتعاقب القرون؛ فاجتمع من ذلك توبيخ خلفهم المعاصرين لمحمد - صلى اللـه عليه وسلم -؛ وبيان الحجة في أن وجبت لهم اللعنة؛ وضربت عليهم الذلة والمسكنة؛ فهذه الطائفة التي قالت: إنا قتلنا المسيح ؛ غير الذين نقضوا الميثاق في الطور؛ وغير الذين اتخذوا العجل؛ وقول بني إسرائيل إنما هو إلى قوله: عيسى ابن مريم وقوله - عز وجل -: [ ص: 61 ] رسول الله ؛ إنما هو إخبار من الله تعالى بصفة لعيسى؛ وهي الرسالة؛ على جهة إظهار ذنب هؤلاء المقرين بالقتل؛ ولزمهم الذنب؛ وهم لم يقتلوا عيسى؛ لأنهم صلبوا ذلك الشخص على أنه عيسى؛ وعلى أن عيسى كذاب ليس برسول؛ ولكن لزمهم الذنب من حيث اعتقدوا أن قتلهم وقع في عيسى؛ فكأنهم قتلوه؛ وإذا كانوا قتلوه فليس يرفع الذنب عنهم اعتقادهم أنه غير رسول؛ كما أن قريشا في تكذيبها رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - لا ينفعهم فيه اعتقادهم أنه كذاب؛ بل جازاهم الله على حقيقة الأمر في نفسه؛ ثم أخبر تعالى أن بني إسرائيل ما قتلوا عيسى؛ ولا صلبوه؛ "ولكن شبه لهم"؛ واختلفت الرواة في هذه القصة وكيفيتها اختلافا شديدا؛ أنا أختصر عيونه؛ إذ ليس في جميعه شيء يقطع بصحته؛ لأنه لم يثبت عن النبي - صلى اللـه عليه وسلم - فيه شيء؛ وليس لنا متعلق في ترجيح شيء منه؛ إلا ألفاظ كتاب الله؛ فالذي لا نشك فيه أن عيسى - عليه السلام - كان يسيح في الأرض؛ ويدعو إلى الله؛ وكانت بنو إسرائيل تطلبه؛ وملكهم في ذلك الزمان يجعل عليه الجعائل؛ وكان عيسى - عليه السلام - قد انضوى إليه الحواريون يسيرون معه حيث سار؛ فلما كان في بعض الأوقات شعر بأمر عيسى - عليه السلام -؛ فروي أن أحد الحواريين أرشي عليه فقبل الرشوة؛ ودل على مكانه؛ فأحيط به؛ ثم ندم ذلك الحواري وخنق نفسه؛ وروي أن رجلا من اليهود جعل له جعل؛ فما زال ينقر عليه حتى دل على مكانه؛ فلما أحس عيسى عليه السلام؛ وأصحابه؛ بتلاحق الطالبين بهم دخلوا بيتا بمرأى من بني إسرائيل؛ فروي أنهم عدوهم ثلاثة عشر؛ وروي ثمانية عشر؛ وحصروا ليلا؛ فروي أن عيسى - عليه السلام - فرق الحواريين عن نفسه تلك الليلة؛ ووجههم إلى الآفاق؛ وبقي هو ورجل معه؛ فرفع عيسى؛ وألقي شبهه على الرجل؛ فصلب ذلك الرجل؛ وروي أن الشبه ألقي على اليهودي الذي دل عليه؛ فصلب؛ وروي أن عيسى - عليه السلام - لما أحيط بهم قال لأصحابه: "أيكم يلقى شبهي عليه فيقتل ويخلص هؤلاء؛ وهو رفيقي في الجنة؟"؛ فقال سرجس: أنا؛ وألقي عليه شبه عيسى؛ ويروى أن شبه عيسى - عليه السلام - ألقي على الجماعة كلها؛ فلما أخرجهم بنو إسرائيل نقص واحد من العدة؛ فأخذوا واحدا ممن ألقي عليه الشبه؛ حسب هذه الروايات التي ذكرتها؛ فصلب ذلك الشخص؛ وروي أن الملك والمتناولين لم يخف عليهم أمر رفع عيسى - عليه السلام - لما [ ص: 62 ] رأوا أمر نقصان العدد؛ واختلاط الأمر؛ فصلب ذلك الشخص؛ وأبعد الناس عن خشبته أياما؛ حتى تغير؛ ولم تثبت له صفة؛ وحينئذ دنا الناس منه؛ ومضى الحواريون يحدثون بالآفاق أن عيسى صلب؛ فهذا أيضا يدل على أنه فرقهم وهو في البيت؛ أو على أن الشبه ألقي على الكل؛ وروي أن هذه القصة كلها لم يكن فيها إلقاء شبه شخص عيسى على أحد؛ وإنما المعنى: "ولكن شبه لهم"؛ أي: شبه عليهم الملك "الممخرق"؛ ليستديم ملكه؛ وذلك أنه لما نقص واحد من الجماعة؛ وفقد عيسى؛ عمد إلى أحدهم؛ وبطش بصلبه؛ وفرق الناس عنه؛ وقال: هذا عيسى قد صلب؛ وانحل أمره.
وقوله تعالى : وإن الذين اختلفوا فيه ؛ يعني اختلاف المحاولين لأخذه؛ لأنهم حين فقدوا واحدا من العدد؛ وتحدث برفع عيسى اضطربوا؛ واختلفوا؛ وعلى رواية من روى أنه ألقي شبه؛ يوشك أنه بقي في ذلك الشبه مواضع للاختلاف؛ لكن أجمعوا على صلب واحد على غير ثقة؛ ولا يقين أيهم هو.
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: فاليقين الذي صح فيه نقل الكافة عن حواسها هو أن شخصا صلب؛ وأما هل هو عيسى أم لا؛ فليس هو من علم الحواس؛ فلذلك لم ينفع في ذلك نقل كافة اليهود والنصارى؛ ونفى الله عنهم أن يكون لهم في أمره علم على ما هو به.
ثم استثنى اتباع الظن؛ وهو استثناء متصل؛ إذ الظن والعلم يضمهما جنس واحد: أنهما من معتقدات النفس؛ وقد يقول الظان - على طريق التجوز -: "علمي في هذا الأمر أنه كذا"؛ وهو يعني ظنه.
وقوله تعالى : وما قتلوه يقينا ؛ اختلف المتأولون في عود الضمير من "قتلوه"؛ [ ص: 63 ] فقالت فرقة: هو عائد على الظن؛ كما تقول: "قتلت هذا الأمر علما"؛ فالمعنى: وما صح ظنهم عندهم؛ ولا تحققوه يقينا؛ هذا قول ؛ ابن عباس ؛ وجماعة؛ وقال قوم: الضمير عائد على والسدي عيسى - عليه السلام -؛ أخبر أنهم لم يقتلوه يقينا؛ فيصح لهم الإصفاق؛ ويثبت نقل كافتهم؛ ومضمن الكلام أنهم ما قتلوه في الحقيقة جملة واحدة؛ لا يقينا؛ ولا شكا؛ لكن لما حصلت في ذلك الدعوى صار قتله عندهم مشكوكا فيه؛ وقال قوم من أهل اللسان: الكلام تام في قوله: "وما قتلوه"؛ و"يقينا": مصدر مؤكد للنفي في قوله: "وما قتلوه"؛ المعنى: يخبركم يقينا؛ أو يقص عليكم يقينا؛ أو أيقنوا بذلك يقينا.
وقوله تعالى : بل رفعه الله إليه ؛ يعني إلى سمائه؛ وكرامته؛ وعيسى - عليه السلام - حي في السماء الثانية؛ على ما تضمنه حديث الإسراء في ذكر ابني الخالة: عيسى ويحيى ؛ ذكره في حديث المعراج؛ وذكره غيره؛ وهو هناك مقيم حتى ينزله الله لقتل الدجال؛ وليملأ الأرض عدلا؛ ويحيا فيها أربعين سنة؛ ثم يموت كما يموت البشر. البخاري
وقوله تعالى : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ؛ اختلف المتأولون في معنى الآية؛ فقال ؛ ابن عباس وأبو مالك ؛ وغيرهم: الضمير في "موته"؛ راجع إلى والحسن بن أبي الحسن؛ عيسى؛ والمعنى: إنه لا يبقى من أهل الكتاب أحد إذا نزل عيسى إلى الأرض إلا يؤمن بعيسى؛ كما يؤمن سائر البشر؛ وترجع الأديان كلها واحدا؛ وقال ؛ مجاهد أيضا؛ وغيرهما: الضمير في "به"؛ وابن عباس لعيسى؛ وفي "موته"؛ للكتابي الذي تضمنه قوله: وإن من أهل الكتاب ؛ التقدير: "وإن من [ ص: 64 ] أهل الكتاب أحد"؛ قالوا: وليس يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى؛ روح الله؛ ويعلم أنه نبي؛ ولكن عند المعاينة للموت؛ فهو إيمان لا ينفعه؛ كما لم ينفع فرعون إيمانه عند المعاينة؛ وقال هذا القول ؛ عكرمة ؛ والضحاك أيضا؛ وقال والحسن بن أبي الحسن أيضا: الضمير في "به"؛ عكرمة لمحمد - عليه الصلاة والسلام -؛ وفي "قبل موته"؛ للكتابي؛ قال: وليس يخرج يهودي؛ ولا نصراني من الدنيا حتى يؤمن بمحمد؛ ولو غرق؛ أو سقط عليه جدار؛ فإنه يؤمن في ذلك الوقت؛ وفي مصحف : "قبل موتهم"؛ ففي هذه القراءة تقوية لعود الضمير على الكتابي؛ وقرأ أبي بن كعب الفياض بن غزوان: "وإن من أهل الكتاب"؛ بتشديد "إن"؛ والضمير المستتر في "يكون"؛ هو لعيسى - عليه السلام -؛ في جل الأقوال؛ ولمحمد - عليه الصلاة والسلام - في قول . عكرمة