وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون
كان هذا القول منهم في التيه، حين ملوا المن والسلوى، وتذكروا عيشهم الأول بمصر ، وكنى عن المن والسلوى بـ "طعام" واحد، وهما طعامان لأنهما كانا يؤكلان في وقت واحد، ولتكرارهما سواء أبدا، قيل لهما طعام "واحد"، ولغة بني عامر "فادع" بكسر العين، و"يخرج" جزم بما تضمنه الأمر من معنى الجزاء، وبنفس الأمر على مذهب أبي عمر الجرمي . والمفعول على مذهب مضمر تقديره: مأكولا مما تنبت الأرض، وقال سيبويه "من" في قوله: "مما" زائدة و"ما" مفعولة، وأبى الأخفش أن تكون "من" ملغاة في غير النفي، كقولهم: "ما رأيت من أحد". ومن في قوله: سيبويه من بقلها ، لبيان الجنس، و"بقلها" بدل بإعادة الحرف. والبقل كل ما تنبته الأرض من [ ص: 228 ] النجم. والقثاء جمع قثأة. وقرأ ، طلحة بن مصرف "قثائها" بضم القاف. وقرأ ويحيى بن وثاب ، وأكثر المفسرين: الفوم الحنطة، وقال ابن عباس : الفوم الخبز، وقال مجاهد عطاء ، الفوم جميع الحبوب التي يمكن أن تخبز كالحنطة والفول والعدس ونحوه، وقال وقتادة : الفوم الثوم، وهي قراءة الضحاك بالثاء، وروي ذلك عن عبد الله بن مسعود ، والثاء تبدل من الفاء كما قالوا: مغاثير ومغافير وجدث وجدف، ووقعوا في عاثور شر وعافور شر على أن البدل لا يقاس عليه، والأول أصح أنها الحنطة، وأنشد ابن عباس قول ابن عباس أحيحة بن الجلاح :
قد كنت أغنى الناس شخصا واجدا ورد المدينة عن زراعة فوم
يعني حنطة، قال ابن دريد : الفوم الزرع أو الحنطة. وأزد السراة يسمون السنبل فوما.
والاستبدال طلب وضع الشيء موضع الآخر و"أدنى" مأخوذ عند [ ص: 229 ] من الدنو أي: القرب في القيمة، وقال أبي إسحاق الزجاج علي بن سليمان : هو مهموز من الدنيء البين الدناءة، بمعنى الأخس إلا أنه خففت همزته، وقال غيره: هو مأخوذ من الدون أي الأحط، فأصله أدون أفعل، قلب فجاء أفلع، وقلبت الواو ألفا لتطرفها. وقرأ زهير للكسائي "أدنأ".
ومعنى الآية: أتستبدلون البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل التي هي أدنى بالمن والسلوى الذي هو خير.؟
والوجه الذي يوجب فضل المن والسلوى على الشيء الذي طلبوه يحتمل أن يكون تفاضلها في القيمة، لأن هذه البقول لا خطر لها، وهذا قول ، ويحتمل أن يفضل المن والسلوى لأنه الطعام الذي من الله به، وأمرهم بأكله، وفي استدامة أمر الله تعالى وشكر نعمته أجر وذخر في الآخرة، والذي طلبوا عار من هذه الخصال، فكأن أدنى من هذا الوجه، ويحتمل أن يفضل في الطيب واللذة به، فالبقول لا محالة أدنى من هذا الوجه، ويحتمل أن يفضل في حسن الغذاء ونفعه، فالمن والسلوى خير لا محالة في هذا الوجه، ويحتمل أن يفضل من جهة أنه لا كلفة فيه ولا تعب، والذي طلبوا لا يجيء إلا بالحرث والزراعة والتعب، فهو "أدنى" في هذا الوجه، ويحتمل أن يفضل في أنه لا مرية في حله وخلوصه، لنزوله من عند الله، والحبوب والأرض يتخللها البيوع والغصوب، وتدخلها الشبه فهي "أدنى" في هذا الوجه. الزجاج
[ ص: 230 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ويترتب الفضل للمن والسلوى بهذه الوجوه كلها.
وفي الكلام حذف تقديره: فدعا موسى ربه فأجابه فقال لهم: "اهبطوا" وقد تقدم ذكر معنى الهبوط، وكأن القادم على قطر منصب عليه، فهو من نحو الهبوط.
وجمهور الناس يقرؤون "مصرا" بالتنوين، وهو خط المصحف إلا ما حكي عن بعض مصاحف رضي الله عنه. وقال عثمان وغيره: ممن صرفها أراد مصرا من الأمصار غير معين، واستدلوا بما اقتضاه القرآن من أمرهم بدخول القرية، وبما تظاهرت به الرواية أنهم سكنوا مجاهد الشام بعد التيه. وقالت طائفة: من صرفها أراد / مصر فرعون بعينها، واستدلوا بما في القرآن من أن الله أورث بني إسرائيل ديار آل فرعون وآثارهم، وأجازوا صرفها قال : لخفتها وشبهها بهند ودعد، الأخفش لا يجيز هذا، وقال غير وسيبويه : أراد المكان فصرف. الأخفش
وقرأ ، الحسن ، وغيرهما: "اهبطوا مصر" بترك الصرف، وكذلك هي في مصحف وأبان بن تغلب ، وقالوا: هي أبي بن كعب مصر فرعون . قال : هي الأعمش مصر التي عليها صالح بن علي ، وقال : قال لي أشهب : هي عندي مالك مصر ، قريتك، مسكن فرعون .
وقوله تعالى: فإن لكم ما سألتم يقتضي أنه وكلهم إلى أنفسهم. وقرأ ، النخعي : "سألتم" بكسر السين وهي لغة. وابن وثاب وضربت عليهم الذلة والمسكنة [ ص: 231 ] معناه: الزموها ، وقضي عليهم بها، كما يقال: ضرب الأمير البعث، وكما قالت العرب : ضربة لازب، أي إلزام ملزوم أو لازم، فينضاف المصدر إلى المفعول بالمعنى، وكما يقال: ضرب الحاكم على اليد، أي حجر وألزم، ومنه: ضرب الدهر ضرباته، أي ألزم إلزاماته.
و"الذلة" فعلة من الذل، كأنها الهيئة والحال. "والمسكنة" من المسكين، قال : هي مأخوذة من السكون، وهي هنا زي الفقر وخضوعه، وإن وجد يهودي غني فلا يخلو من زي الفقر ومهانته. قال الزجاج الحسن : المسكنة الخراج، أي الجزية، وقال وقتادة : المسكنة الفاقة والحاجة. أبو العالية
وباءوا بغضب من الله معناه: مروا متحملين له، تقول: بؤت بكذا إذا تحملته، ومنه قول مهلهل ليحيى بن الحارث بن عباد : "بؤ بشسع نعل كليب ".
والغضب بمعنى الإرادة صفة ذات، وبمعنى إظهاره على العبد بالمعاقبة صفة فعل، والإشارة بذلك إلى ضرب الذلة وما بعده.
والباء في "بأنهم" باء السبب، وقال المهدوي : إن الباء بمعنى اللام، والمعنى: لأنهم، والآيات هنا تحتمل أن يراد بها التسع وغيرها مما يخرق العادة، وهو علامة لصدق الآتي بها، ويحتمل أن يراد آيات التوراة التي هي كآيات القرآن.
وقرأ : "وتقتلون" بالتاء على الرجوع إلى خطابهم وروي [ ص: 232 ] عنه أيضا بالياء، وقرأ الحسن بن أبي الحسن بهمز "النبيئين" وكذلك حيث وقع في القرآن إلا في موضعين: في سورة الأحزاب نافع إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي بلا مد ولا همز، و لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم وإنما ترك همز هذين لاجتماع همزتين مكسورتين من جنس واحد. وترك الهمز في جميع ذلك الباقون، فأما من همز فهو عنده من "أنبأ" إذا أخبر، واسم فاعله منبئ فقيل: نبئ، بمعنى منبئ كما قيل: سميع بمعنى مسمع، واستدلوا بما جاء من جمعه على نباء، قال الشاعر:
يا خاتم النبآء إنك مرسل بالحق، كل هدى الإله هداكا
واختلف القائلون بترك الهمز في نبيء، فمنهم من اشتق اشتقاق من همز، ثم سهل الهمز، ومنهم من قال: هو مشتق من نبا ينبو إذا ظهر، فالنبي الطريق الظاهر، وكأن النبي من عند الله طريق الهدى والنجاة، وقال الشاعر:
لما وردنا نبيا واستتب بنا مسحنفر كخطوط السيح منسحل
يا خاتم النبآء.
ولم يؤثر في ذلك إنكار، والجمع كالواحد.
وقوله تعالى: بغير الحق تعظيم للشنعة والذنب الذي أتوه، ومعلوم أنه ولكن من حيث قد يتخيل متخيل لذلك وجها، فصرح قوله لا يقتل نبي بحق، بغير الحق عن شنعة الذنب ووضوحه، ولم يجترم قط نبي ما يوجب قتله. وإنما أتاح الله تعالى من أباح منهم، وسلط عليهم، كرامة لهم، وزيادة في منازلهم، كمثل من يقتل في سبيل الله من المؤمنين" قال وغيره: لم يقتل قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال، وكل من أمر بقتال نصر ، وقوله تعالى: "ذلك" رد على الأول وتأكيد للإشارة إليه، والباء في "بما" باء السبب، و"يعتدون" معناه يتجاوزون الحدود، والاعتداء: تجاوز الحد في كل شيء، وعرفه في الظلم والمعاصي. ابن عباس