قوله عز وجل:
أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون
جعل الله ترك الآخرة، وأخذ الدنيا مع قدرتهم على التمسك بالآخرة بمنزلة من أخذها ثم باعها بالدنيا، وهذه النزعة صرفها رحمه الله في فقه البيوع، إذ لا يجوز الشراء على أن يختار المشتري في كل ما تختلف صفة آحاده، ولا يجوز فيه التفاضل كالحجل المذبوحة وغيرها، ولا يخفف عنهم العذاب في الآخرة، ولا ينصرون لا في الدنيا ولا في الآخرة، "والكتاب" التوراة ونصبه على المفعول الثاني لـ "آتينا"، و"قفينا" مأخوذ من القفا، تقول: قفيت فلانا بفلان إذا جئت به من قبل قفاه، ومنه قفا يقفو إذا اتبع، وهذه الآية مثل قوله تعالى: مالك ثم أرسلنا رسلنا تترى ، وكل رسول جاء بعد موسى فإنما جاء بإثبات التوراة والأمر بلزومها إلى عيسى عليه السلام . وقرأ [ ص: 278 ] ، الحسن : "بالرسل" ساكنة السين، ووافقهما ويحيى بن يعمر إذا انضاف ذلك إلى ضمير نحو: رسلنا ورسلهم. و"البينات" الحجج التي أعطاها الله أبو عمرو عيسى ، وقيل: هي آياته من إحياء، وإبراء، وخلق طير، وقيل: هي الإنجيل، والآية تعم جميع ذلك. "وأيدناه" معناه قويناه، والأيد القوة. وقرأ ابن محيصن ، ، والأعرج وحميد "آيدناه". وقرأ ، ابن كثير : "روح القدس" بسكون الدال. وقرأ الجمهور بضم القاف والدال، وفيه لغة فتحهما، وقرأ ومجاهد أبو حيوة "بروح القدس" بواو. وقال رضي الله عنهما: روح القدس": هو الاسم الذي به كان يحيي الموتى. وقال ابن عباس : هو الإنجيل، كما سمى الله تعالى القرآن روحا. وقال ابن زيد ، السدي ، والضحاك ، والربيع : "روح القدس" وقتادة جبريل صلى الله عليه وسلم، وهذا أصح الأقوال، وقد : اهج لحسان بن ثابت قريشا ، وروح القدس معك ، ومرة قال له: وجبريل معك ، وقال قال النبي صلى الله عليه وسلم ، الربيع : "القدس" اسم من أسماء الله تعالى كالقدوس، والإضافة على هذا إضافة الملك إلى المالك، وتوجهت لما كان ومجاهد جبريل عليه السلام من عباد الله تعالى، وقيل: "القدس" الطهارة، وقيل: القدس البركة.
و"كلما" ظرف، والعامل فيه "استكبرتم"، وظاهر الكلام الاستفهام ومعناه التوبيخ [ ص: 279 ] والتقرير، ويتضمن أيضا الخبر عنهم، والمراد بهذه الآية بنو إسرائيل . ويروى أن بني إسرائيل كانوا يقتلون في اليوم ثلاثمائة نبي، ثم تقوم سوقهم آخر النهار، وروي: سبعين نبيا ثم تقوم سوق بقلهم آخر النهار، وفي "تهوى" ضمير من صلة "ما" لطول اللفظ. والهوى أكثر ما يستعمل فيما ليس بحق، وهذه الآية من ذلك، لأنهم إنما كانوا يهوون الشهوات، وقد يستعمل في الحق، ومنه رضي الله عنه في قصة أسرى عمر بدر : فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال ، ولم يهو ما قلت أبو بكر واستكبرتم من الكبر، و"فريقا" مفعول مقدم. وقرأ جمهور القراء: "غلف" بإسكان اللام على أنه جمع أغلف مثل حمر و صفر، والمعنى قلوبنا عليها غلف وغشاوة فهي لا تفقه. قاله قول ، وقال ابن عباس : المعنى عليها طابع. وقالت طائفة: غلف بسكون اللام جمع غلاف أصله غلف بتثقيل اللام فخفف. وهذا قلما يستعمل إلا في الشعر. وقرأ قتادة ، الأعمش والأعرج وابن محيصن : "غلف" بتثقيل اللام جمع غلاف، ورويت عن [ ص: 280 ] ، فالمعنى. هي أوعية للعلم والمعارف بزعمهم، فهي لا تحتاج إلى علم أبي عمرو محمد . وقيل: المعنى فكيف يعزب عنها علم محمد صلى الله عليه وسلم؟ فرد الله تعالى عليهم بقوله: بل لعنهم الله بكفرهم ، و"بل" في هذه الآية نقض للأول، وإضراب عنه، ثم بين تعالى أن السبب في نفورهم عن الإيمان إنما هو أنهم لعنوا بما تقدم من كفرهم واجترامهم، وهذا هو الجزاء على الذنب فالذنب أعظم منه، واللعن الإبعاد والطرد. و"قليلا" نعت لمصدر محذوف تقديره: فإيمانا قليلا ما يؤمنون، والضمير في "يؤمنون" لحاضري محمد صلى الله عليه وسلم، ويتجه قلة هذا الإيمان، إما لأن من آمن بمحمد منهم قليل، فيقل لقلة الرجال، قال هذا المعنى ، وإما لأن وقت إيمانهم عند ما كانوا يستفتحون به قبل مبعثه قليل، إذ قد كفروا بعد ذلك، وإما لأنهم لم يبق لهم بعد كفرهم غير التوحيد على غير وجهه، إذ هم مجسمون، فقد قللوه بجحدهم الرسول، وتكذيبهم التوراة، فإنما يقل من حيث لا ينفعهم كذلك، وعلى هذا التأويل يجيء التقدير: فإيمانا قليلا، وعلى الذي قبله: فوقتا قليلا، وعلى الذي قبله فعددا من الرجال قليلا، و"ما" في قوله: ما يؤمنون زائدة مؤكدة، و "قليلا" نصب بـ" يؤمنون". قتادة