ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير
الملك: السلطان، ونفوذ الأمر، والإرادة، وجمع الضمير في "لكم" دال على أن المراد بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم خطاب أمته. والولي: فعيل من ولي إذا جاور ولصق، فالناصر، والمعين، والقائم بالأمر، والحافظ، كلهم مجاور بوجه ما، و"النصير": فعيل من النصر، وهو أشد مبالغة من ناصر.
وقوله تعالى: أم تريدون ، قالت فرقة: "أم" رد على الاستفهام الأول فهي معادلته، وقالت فرقة: "أم" استفهام مقطوع من الأول، كأنه قال: أتريدون؟ وهذا [ ص: 318 ] موجود في كلام العرب ، وقالت فرقة: أم هنا بمعنى بل وألف الاستفهام، قال ، وغيره: وهذا يضعف، لأن "أم" لا تقع بمعنى بل إلا إذا اعترض المتكلم شك فيما يورده. مكي
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وليس كما قال رحمه الله، لأن "بل" قد تكون للإضراب عن اللفظ الأول لا عن معناه، وإنما يلزم ما قال على أحد معنيي "بل"، وهو الإضراب عن اللفظ والمعنى، ونعم ما قال مكي : بل هي لترك كلام وأخذ في غيره. سيبويه
وقال : إن هذه الآية نزلت حين أبو العالية قال بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: ليت ذنوبنا جرت مجرى ذنوب بني إسرائيل بتعجيل العقوبة في الدنيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أعطاكم الله خيرا مما أعطى بني إسرائيل" وتلا: ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ، فتجيء إضافة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأمة على هذا حسب الأمر في نفسه، وحسب إقرارهم، وقال رضي الله عنه: ابن عباس إن رافع بن حريملة اليهودي سأل النبي صلى الله عليه وسلم تفجير عيون وغير ذلك ، وقيل: إن كفار قريش سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالله جهرة ، وقيل: سألوه أن يأتيهم بالله والملائكة قبيلا ، وقال : سألوه أن يرد مجاهد الصفا ذهبا، فقال لهم: خذوا ذلك كالمائدة لبني إسرائيل ، فأبوا ونكصوا .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فتجيء على هذه الأقوال إضافة الرسول إليهم حسب الأمر في نفسه لا على إقرارهم.
وما سئل موسى عليه السلام هو أن يرى الله جهرة. وقرأ ، [ ص: 319 ] وغيره "سيل" بكسر السين وياء، وهي لغة يقال: سلت أسال، ويحتمل أن يكون من همز أبدل الهمزة ياء على غير قياس، ثم كسر السين من أجل الياء. وقرأ بعض القراء بتسهيل الهمزة بين الهمزة والياء مع ضم السين. وكني عن الإعراض عن الإيمان والإقبال على الكفر بالتبديل، وقال الحسن بن أبي الحسن : الكفر هنا الشدة، والإيمان الرخاء، وهذا ضعيف، إلا أن يريدهما مستعارتين أي الشدة على نفسه والرخاء لها عبارة عن العذاب والنعيم. وأما المتعارف من شدة أمور الدنيا ورخائها فلا تفسر الآية به. و"ضل" أخطأ الطريق، و "السواء" من كل شيء الوسط والمعظم، ومنه قوله تعالى: أبو العالية في سواء الجحيم ، وقال : "كتبت حتى انقطع سوائي"، وقال عيسى بن عمر في رثاء النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكر حسان بن ثابت وغيره : ابن إسحاق
يا ويح أنصار النبي ورهطه بعد المغيب في سواء الملحد
وقوله تعالى: ود كثير من أهل الكتاب ، كثير: مرتفع بـ "ود"، وهو نعت لنكرة، وحذف الموصوف النكرة قليل، ولكن جاز هنا لأنها صفة متمكنة ترفع الإشكال، بمنزلة فريق. قال : عنى بـ "كثير" واحد، وهو الزهري كعب بن الأشرف ، وهذا تحامل، وقوله: "يردونكم" يرد عليه، وقال : المراد ابنا ابن عباس أخطب : حيي وأبو ياسر .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي الضمن الأتباع فتجيء العبارة متمكنة. و"الكتاب" هنا التوراة. و"لو" هنا بمنزلة "أن" لا تحتاج إلى جواب، وقيل: يتقدر جوابها في "ود"، التقدير: لو يردونكم لودوا ذلك، فـ "ود" دالة على الجواب، لأن من [ ص: 320 ] شرطه أن يكون متأخرا عن "لو"، و"كفارا" مفعول ثان، ويحتمل أن يكون حالا. و"حسدا" مفعول له، وقيل: هو مصدر في موضع الحال.
واختلف في تعلق قوله: من عند أنفسهم فقيل: يتعلق بـ "ود"، لأنه بمعنى ودوا، وقيل: يتعلق بقوله "حسدا"، فالوقف على قوله: "كفارا"، والمعنى على هذين القولين: أنهم لم يجدوا ذلك في كتاب، ولا أمروا به، فهو من تلقائهم. ولفظة الحسد تعطي هذا، فجاء من عند أنفسهم تأكيدا وإلزاما كما قال تعالى: يقولون بأفواههم و يكتبون الكتاب بأيديهم ، و ولا طائر يطير بجناحيه ، وقيل: فيتعلق بقوله: "يردونكم"، فالمعنى: أنهم ودوا الرد بزيادة أن يكون من تلقائهم، أي بإغوائهم وتزيينهم.
واختلف في سبب هذه الآية، فقيل: إن ، حذيفة بن اليمان أتيا وعمار بن ياسر بيت المدارس ، فأراد اليهود صرفهم عن دينهم فثبتا عليه، ونزلت الآية، وقيل: إنما هذه الآية تابعة في المعنى لما تقدم من نهي الله عن متابعة أقوال اليهود في "راعنا" وغيره، وأنهم لا يودون أن ينزل خير، ويودون أن يردوا المؤمنين كفارا.
و"الحق" المراد به في هذه الآية: نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وصحة ما المسلمون عليه. وهذه الآية من الظواهر في صحة الكفر عنادا، واختلف أهل السنة في جواز ذلك، [ ص: 321 ] والصحيح عندي جوازه عقلا وبعده وقوعا، ويترتب في كل آية تقتضيه أن المعرفة تسلب في ثاني حال من العناد. والعفو: ترك العقوبة وهو من عفت الآثار، والصفح: الإعراض عن المذنب كأنه يولي صفحة العنق. وقال : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ابن عباس قاتلوا الذين لا يؤمنون إلى قوله: "صاغرون". وقيل بقوله: ( اقتلوا المشركين ) وقال قوم: ليس هذا حد المنسوخ لأن هذا في نفس الأمر كان التوقيف على مدته.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا على من يجعل الأمر المنتظر أوامر الشرع، أو قتل قريظة وإجلاء النضير ، وأمر من يجعله آجال بني آدم فيترتب النسخ في هذه الآية بعينها لأنه لا يختلف أن والنسخ هو مجيء الأمر في هذه المقيدة، وقيل: مجيء الأمر هو فرض القتال، وقيل: قتل آيات الموادعة المطلقة قد نسخت كلها، قريظة وإجلاء النضير . وقال في هذه الآية: إنها منسوخة بالقتال، لأن أبو عبيدة وحكمه بأن هذه الآية مكية ضعيف، لأن معاندات اليهود إنما كانت كل آية فيها ترك القتال فهي مكية منسوخة، بالمدينة .
وقوله تعالى: إن الله على كل شيء قدير مقتضاه في هذا الموضوع وعد للمؤمنين.