ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم
هذا نص من المنافقين منهم، ومعنى "يتخذ" في هذه الآيات أي: يجعل مقصده ولا ينوي فيه غير ذلك، وأصل المغرم الدين، ومنه تعوذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من المغرم والمأثم، ولكن كثر استعمال المغرم فيما يؤديه الإنسان مما لا يلزمه بحق، وفي اللفظ معنى اللزوم، ومنه قوله تبارك وتعالى: إن عذابها كان غراما أي: مكروها لازما، و"الدوائر": المصائب التي لا مخلص للإنسان منها فهي تحيط به كما تحيط الدائرة، وقد يحتمل أن تشتق من دور الزمان، والمعنى: ينتظر بكم ما تأتي به الأيام وتدور به. ثم قال على جهة الدعاء: عليهم دائرة السوء ، وكل ما كان بلفظ دعاء [ ص: 390 ] من جهة الله عز وجل فإنما هو بمعنى إيجاب الشيء، لأن الله لا يدعو على مخلوقاته وهي في قبضته، ومن هذا قوله سبحانه: ويل لكل همزة لمزة ، ويل للمطففين ، فهي كلها أحكام تامة تضمنها خبره تبارك وتعالى. وقرأ الجمهور من السبعة وغيرهم: "دائرة السوء" بفتح السين، وقرأ ، ابن كثير ، وأبو عمرو وابن محيصن بخلاف عنه، ، وعاصم بخلاف عنهما: "دائرة السوء" بضم السين، واختلف عن والأعمش ، وقيل: الفتح المصدر والضم الاسم، واختلف الناس فيهما وهو اختلاف يقرب بعضه من بعض، والفتح في السين يقتضي وصف الدائرة بأنها سيئة، وقال ابن كثير : معنى "الدائرة" يقتضي معنى "السوء" فإنما هي إضافة بيان وتأكيد، كما قالوا: "شمس النهار" و"لحيا رأسه". أبو علي
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ولا يقال: "رجل سوء" إلا بفتح السين، هذا قول أكثرهم، وقد حكي: "رجل سوء" بضم السين، وقد قال الشاعر :
وكنت كذئب السوء لما رأى دما ... بصاحبه يوما أحال على الدم
ولم يختلف القراء في فتح السين من قوله تعالى: ما كان أبوك امرأ سوء .
وقوله تعالى: ومن الأعراب من يؤمن بالله الآية، قال : (هذه ثنية الله تعالى من الأعراب)، و"يتخذ" في هذه الآية أيضا هي بمعنى: يجعله مقصدا، والمعنى: ينوي بنفقته في سبيل الله القربة عند الله عز وجل واستغنام دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، [ ص: 391 ] ففي دعائه لهم خير الآخرة في النجاة من النار، وخير الدنيا في أرزاقهم ومنح الله لهم، فـ "صلوات" -على هذا- عطف على "قربات"، ويحتمل أن يكون عطفا على "ما ينفق"، أي: ويتخذ بالأعمال الصالحة صلوات الرسول قربة، والأولى أبين. قتادة
و"قربات" جمع قربة أو قربة بسكون الراء وضمها، وهما لغتان، والصلاة في هذه الآية: الدعاء إجماعا، وقال بعض العلماء: الصلاة من الله رحمة، ومن النبي والملائكة دعاء، ومن الناس عبادة. والضمير في قوله: "إنها" يحتمل أن يعود على النفقة، وهذا في انعطاف "الصلوات" على "القربات" ، ويحتمل أن يعود على الصلوات، وهذا في انعطافه على "ما ينفق"، وقرأ : "قربة" بضم الراء، واختلف عنه وعن نافع عاصم ، وقرأ الباقون: "قربة" بسكون الراء، ولم يختلف في "قربات"، ثم وعد تبارك وتعالى بقوله: والأعمش سيدخلهم الله في رحمته الآية، وروي أن هذه الآية نزلت في بني مقرن من مزينة، وقاله . وأسند مجاهد إلى الطبري عبد الرحمن بن مغفل بن مقرن أنه قال: كنا عشرة ولد مقرن فنزلت فينا: ومن الأعراب من يؤمن بالله إلى آخر الآية.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وقوله: "عشرة ولد مقرن" يريد الستة أولاد مقرن لصلبه أو السبعة على ما في الاستيعاب من قول سويد بن مقرن، وبنيهم لأن هذا هو الذي في مشهور دواوين أهل العلم.