قوله عز وجل:
يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين
قرأ ، وغيره "نعمتي" بتسكين الياء تخفيفا; لأن أصلها التحريك كتحريك الضمائر: لك وبك، ثم حذفها الحسن للالتقاء، وفي السبعة من يحرك الياء، ومنهم من يسكنها. الحسن
وإن قدرنا فضيلة بني إسرائيل مخصوصة بكثرة الأنبياء وغير ذلك، فالعالمون عموم مطلق، وإن قدرنا تفضيلهم على الإطلاق فالعالمون عالمو زمانهم لأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل منهم بالنص، وقد تقدم القول على مثل هذه الآية إلى قوله: "ينصرون" [ ص: 339 ] ومعنى ( لا تنفعها شفاعة ) أي ليست ثم، وليس المعنى أنه يشفع فيهم أحد فيرد، وإنما نفى أن تكون ثم شفاعة على حد ما هي في الدنيا، وأما التي هي في تعجيل الحساب فليست بنافعة لهؤلاء الكفرة في خاصتهم، وأما الأخيرة التي هي بإذن من الله تعالى في أهل المعاصي من المؤمنين فهي بعد أن أخذ العقاب حقه، وليس لهؤلاء المتوعدين من الكفار منها شيء. الشفاعة
والعامل في "إذ" فعل، تقديره واذكر إذ، و"ابتلى" معناه اختبر، و"إبراهيم" يقال: إن تفسيره بالعربية أب رحيم.
وقرأ في جميع سورة البقرة ابن عامر "أبراهام" . وقدم على الفاعل للاهتمام إذ كون الرب مبتليا معلوم، فإنما يهتم السامع بمن ابتلى، وكون ضمير المفعول متصلا بالفاعل موجب تقديم المفعول، فإنما بني الكلام على هذا الاهتمام.
واختلف أهل التأويل في الكلمات، فقال : هي ثلاثون سهما هي الإسلام كله لم يتمه أحد كاملا إلا ابن عباس إبراهيم صلوات الله عليه، عشرة منها في براءة: التائبون العابدون الآية، وعشرة في الأحزاب: إن المسلمين والمسلمات ، وعشرة في: سأل سائل .
[ ص: 340 ] وقال أيضا، ابن عباس : الكلمات عشر خصال، خمس منها في الرأس: المضمضة والاستنشاق، وقص الشارب، والسواك، وفرق الرأس، وقيل بدل فرق الرأس: إعفاء اللحية. وخمس في الجسد: تقليم الظفر وحلق العانة، ونتف الإبط، والاستنجاء بالماء، والاختتان ، وقال وقتادة أيضا: هي عشرة خصال، ست في البدن، وأربع في الحج: الختان، وحلق العانة، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، والغسل يوم الجمعة، والطواف بالبيت، والسعي، ورمي الجمار، والإفاضة . ابن عباس
وقال : هي الخلال الست التي امتحن بها: الكوكب، والقمر، والشمس والنار، والهجرة، والختان، وقيل بدل الهجرة: الذبح. وقالت طائفة: هي مناسك الحج خاصة. وروي أن الله تعالى أوحى إليه أن تطهر فتمضمض، ثم أن تطهر فاستنشق، ثم أن تطهر فاستاك، ثم أن تطهر فأخذ من شاربه، ثم أن تطهر، ففرق شعره، ثم أن تطهر، فاستنجى، ثم أن تطهر، فحلق عانته، ثم أن تطهر، فنتف إبطه، ثم أن تطهر فقلم أظفاره، ثم أن تطهر، فأقبل على جسده ينظر ما يصنع فاختتن بعد عشرين ومائة سنة، وفي الحسن بن أبي الحسن البخاري . أنه اختتن وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم
[ ص: 341 ] وقال الراوي فأوحى الله إليه: إني جاعلك للناس إماما يأتمون بك في هذه الخصال، ويقتدي بك الصالحون.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا أقوى الأقوال في تفسير هذه الآية، وعلى هذه الأقوال كلها فإبراهيم عليه السلام هو الذي أتم.
وقال ، وغيره: إن الكلمات هي أن الله عز وجل قال مجاهد لإبراهيم : إني مبتليك بأمر فما هو؟ قال إبراهيم : تجعلني إماما للناس، قال الله: نعم، قال إبراهيم : تجعل البيت مثابة، قال الله: نعم، قال إبراهيم : وآمنا، قال الله: نعم، قال إبراهيم : وترينا مناسكنا وتتوب علينا، قال الله: نعم، قال إبراهيم : تجعل هذا البلد آمنا، قال الله: نعم، قال إبراهيم : وترزق أهله من الثمرات، قال الله: نعم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فعلى هذا القول فالله تعالى هو الذي أتم، وقد طول المفسرون في هذا، وذكروا أشياء فيها بعد فاختصرتها.
وإنما سميت هذه الخصال كلمات لأنها اقترنت بها أوامر هي كلمات. وروي أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما أتم هذه الكلمات، أو أتمها الله عليه; كتب الله له البراءة من النار، فذلك قوله تعالى: وإبراهيم الذي وفى .
والإمام: القدوة، ومنه قيل لخيط البناء إمام، وهو هنا اسم مفرد، وقيل في غير هذا الموضع: هو جمع آم، وزنه فاعل أصله آمم، فيجيء مثل قائم وقيام، وجائع وجياع، ونائم ونيام. وجعل الله تعالى إبراهيم إماما لأهل طاعته فلذلك اجتمعت الأمم على الدعوى فيه، وأعلم الله تعالى أنه كان حنيفا، وقول إبراهيم عليه السلام: ومن [ ص: 342 ] ذريتي هو على جهة الدعاء والرغبى إلى الله، أي: ومن ذريتي يا رب فاجعل. وقيل: هذا منه على جهة الاستفهام عنهم، أي ومن ذريتي يا رب ماذا يكون؟
والذرية مأخوذة من ذرا يذرو، أو من ذرى يذري، أو من ذر يذر، أو من ذرأ يذرأ، وهي أفعال تتقارب معانيها، وقد طول في تعليلها أبو الفتح وشفى.
وقوله تعالى: قال لا ينال عهدي أي: قال الله. والعهد فيما قال : الإمامة، وقال مجاهد : النبوءة، وقال السدي : الأمان من عذاب الله، وقال قتادة ، الربيع : العهد الدين، دين الله تعالى. وقال والضحاك : معنى الآية: لا عهد عليك لظالم أن تطيعه، ونصب "الظالمين" لأن العهد ينال كما ينال، وقرأ ابن عباس ، قتادة ، وأبو رجاء : "الظالمون" بالرفع. وإذا أولنا العهد الدين أو الأمان أو ألا طاعة لظالم، فالظلم في الآية ظلم الكفر، لأن والأعمش وتلزم طاعته إذا كان ذا أمر. وإذا أولنا العهد النبوءة أو الإمامة في الدين، فالظلم ظلم المعاصي فما زاد. العاصي المؤمن ينال الدين والأمان من عذاب الله،