سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم
أعلم الله تعالى في هذه الآية أنهم سيقولون في شأن تحول المؤمنين من الشام إلى الكعبة : "ما ولاهم"، و"السفهاء" هم الخفاف الأحكام والعقول، والسفه: الخفة والهلهلة، ثوب سفيه أي غير متقن النسج، ومنه قول : ذي الرمة
مشين كما اهتزت رماح تسفهت أعاليها مر الرياح النواسم
وقالت طائفة: قالها كفار قريش ، لأنهم قالوا: ما ولاه عن قبلته؟ ما رجع إلينا إلا لعلمه أنا على الحق، وسيرجع إلى ديننا كله، و"ولاهم" معناه صرفهم، والقبلة: فعلة هيئة المقابل للشيء، فهي كالقعدة والإزرة.
[ ص: 366 ] وجعل المستقبل موضع الماضي في قوله: " سيقول " دلالة على استدامة ذلك، وأنهم يستمرون على ذلك القول، ونص وغيره أن الآية نزلت بعد قولهم. ابن عباس
وقوله تعالى: قل لله المشرق والمغرب إقامة حجة، أي: له ملك المشارق والمغارب وما بينهما، و يهدي من يشاء إشارة إلى هداية الله تعالى هذه الأمة إلى قبلة إبراهيم . والصراط: الطريق. واختلف العلماء، المقدس بأمر من الله تعالى في القرآن، أو بوحي غير متلو؟، فذكر هل كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت عن ابن فورك قال: أول ما نسخ من القرآن القبلة ، وقال الجمهور: بل كان أمر قبلة ابن عباس بيت المقدس بوحي غير متلو، وقال : خير رسول الله صلى الله عليه وسلم في النواحي فاختار الربيع بيت المقدس ليستألف بها أهل الكتاب ، ومن قال كان بوحي غير متلو قال: كان ذلك ليختبر الله تعالى من آمن من العرب لأنهم كانوا يألفون الكعبة وينافرون بيت المقدس وغيره، واختلف كم صلى إلى بيت المقدس ؟ ففي ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، وروي عن البخاري تسعة أو عشرة أشهر، وروي عن غيره ثلاثة عشر شهرا. أنس بن مالك
وحكى عن مكي إبراهيم بن إسحاق أنه قال: أول أمر الصلاة أنها فرضت بمكة ركعتين في أول النهار، وركعتين في آخره، ثم كان الإسراء ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة ففرضت الخمس وأم فيها جبريل عليه السلام، وكانت أول صلاة الظهر، وتوجه بالنبي صلى الله عليهما وسلم إلى بيت المقدس ، ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في ربيع الأول وتمادى إلى بيت المقدس إلى رجب من سنة اثنتين ، وقيل: إلى جمادى، وقيل: إلى نصف شعبان.
وقوله تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا ، الكاف متعلقة بالمعنى الذي في قوله: يهدي من يشاء ، أي كما هديناكم إلى قبلة إبراهيم وشريعته كذلك جعلناكم أمة، [ ص: 367 ] و"أمة": مفعول ثان، و "وسطا": نعت. و"الأمة": القرون من الناس، و "وسطا": معناه عدولا، روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتظاهرت به عبارة المفسرين.
والوسط: الخيار والأعلى من الشيء، كما تقول: وسط القوم، وواسطة القلادة أنفس حجر فيها، والأمير وسط الجيش، وكقوله تعالى: قال أوسطهم ، والوسط بإسكان السين ظرف مبني على الفتح، وقد جاء متمكنا في بعض الروايات في بيت : الفرزدق
فجاءت بملجوم كأن جبينه صلاءة ورس وسطها قد تفلقا
[ ص: 368 ] قال بعض العلماء: أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم تغل في الدين كما فعلت اليهود ، ولا فترت كالنصارى ، فهي متوسطة، فهي أعلاها وخيرها من هذه الجهة.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: أي: خيارها. خير الأمور أوساطها
وقد يكون العلو والخير في الشيء إما بأنه أنفس جنسه، وإما أن يكون بين الإفراط والتقصير، فهو خيار من هذه الجهة، و"شهداء" جمع شاهد.
واختلف المفسرون في المراد بـ "الناس" في هذا الموضع، فقالت فرقة: هم جميع الجنس. محمد صلى الله عليه وسلم تشهد يوم القيامة للأنبياء على أممهم بالتبليغ، وذلك أن وأمة نوحا تناكره أمته في التبليغ، فتقول له أمة محمد : نحن نشهد لك، فيشهدون، فيقول الله لهم: كيف شهدتم على ما لم تحضروا؟ فيقولون: أي ربنا، جاءنا رسولك، ونزل إلينا كتابك، فنحن نشهد بما عهدت إلينا وأعلمتنا به، فيقول الله تعالى: صدقتم.
وروي في هذا المعنى حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروي عنه أن أمته تشهد لكل نبي ناكره قومه . وقال : معنى الآية: تشهدون مجاهد لمحمد صلى الله عليه وسلم أنه قد بلغ الناس في مدته من اليهود والنصارى والمجوس . وقالت طائفة: معنى الآية: يشهد بعضكم على بعض بعد الموت، كما ، وروي في بعض الطرق أنه قرأ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مرت به جنازة فأثنى عليها بالخير فقال: "وجبت"، ثم مر بأخرى، فأثنى عليها بشر، فقال: "وجبت"، يعني الجنة والنار، فسئل عن [ ص: 369 ] ذلك فقال: "أنتم شهداء الله في الأرض لتكونوا شهداء على الناس .
ويكون الرسول عليكم شهيدا قيل: معناه: بأعمالكم يوم القيامة، وقيل: أن يشهد عليكم بالتبليغ إليكم، وقيل: عليكم بمعنى: لكم، أي يشهد لكم بالإيمان.
وقوله تعالى: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها الآية، قال ، قتادة ، والسدي ، وغيرهم: القبلة هنا وعطاء بيت المقدس ، والمعنى: لم نجعلها حين أمرناك بها أولا إلا فتنة، لنعلم من يتبعك من العرب الذين إنما يألفون مسجد مكة ، أو من اليهود على ما قال من الضحاك أن الأحبار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن بيت المقدس هو قبلة الأنبياء، فإن صليت إليه اتبعناك، فأمره الله بالصلاة إليه امتحانا لهم فلم يؤمنوا .
وقال بعض من ذكر القبلة بيت المقدس : والمعنى: وما جعلنا صرف القبلة التي كنت عليها وتحويلها، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقال : القبلة في الآية ابن عباس الكعبة ، و"كنت" بمعنى "أنت" كقوله تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس ، بمعنى أنتم، أي: وما جعلناها وصرفناك إليها إلا فتنة.
وروي في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حول إلى الكعبة أكثر في ذلك اليهود [ ص: 370 ] والمنافقون، وارتاب بعض المؤمنين حتى نزلت الآية ، وقال : بلغني أن ناسا ممن كان أسلم رجعوا عن الإسلام. ابن جريج
ومعنى قوله تعالى: "لنعلم" أي: ليعلم رسولي والمؤمنون به، وجاء الإسناد بنون العظمة إذ هم حزبه وخاصته، وهذا شائع في كلام العرب ، كما تقول: فتح عمر العراق وجبى خراجها، وإنما فعل ذلك جنده وأتباعه، فهذا وجه التجوز إذا ورد علم الله تعالى بلفظ استقبال لأنه قديم لم يزل.
ووجه آخر وهو أن الله تعالى قد علم في الأزل من يتبع الرسول، واستمر العلم حتى وقع حدوثهم، واستمر في حين الاتباع والانقلاب، ويستمر بعد ذلك، والله تعالى متصف في كل ذلك بأنه يعلم.
فأراد بقوله: "لنعلم" ذكر علمه وقت مواقعتهم الطاعة والمعصية، إذ بذلك الوقت يتعلق الثواب والعقاب، فليس معنى "لنعلم" لنبتدئ العلم، وإنما المعنى لنعلم ذلك موجودا.
وحكى أن معنى "لنعلم": لنثيب، فالمعنى: لنعلم في حال استحقوا فيها الثواب، وعلق العلم بأفعالهم لتقوى الحجة ويقع التثبت فيما علمه، لا مدافعة لهم فيه. ابن فورك
وحكى أيضا: أن معنى "لنعلم": لنميز، وذكره ابن فورك عن الطبري . ابن عباس
[ ص: 371 ] وحكى أيضا أن معنى "لنعلم": لنرى، وهذا كله متقارب، والقاعدة نفي استقبال العلم بعد أن لم يكن. الطبري
وقرأ : "ليعلم" على ما لم يسم فاعله. الزهري
و ينقلب على عقبيه عبارة عن المرتد الراجع عما كان فيه من إيمان أو شغل أو غير ذلك. والرجوع على العقب أسوأ حالات الراجع في مشيه عن وجهته، فلذلك شبه المرتد في الدين به، وظاهر التشبيه أنه بالمتقهقر، وهي مشية الحيوان الفازع من شيء قد قرب منه. ويحتمل أن يكون هذا التشبيه بالذي رد ظهره ومشى أدراجه، فإنه عند انقلابه إنما ينقلب على عقبيه.
وقوله تعالى: وإن كانت لكبيرة الآية، الضمير في "كانت" راجع إلى القبلة إلى بيت المقدس ، أو إلى التحويلة إلى الكعبة حسب ما ذكرناه من الاختلاف في القبلة، وقال : هو راجع إلى الصلاة التي صليت إلى ابن زيد بيت المقدس . وشهد الله تعالى في هذه الآية للمتبعين بالهداية، و "كبيرة" هنا معناه: شاقة صعبة تكبر في الصدور، و"إن" هي المخففة من الثقيلة، ولذلك لزمتها اللام لتزيل اللبس الذي بينها وبين النافية، وإذا ظهر التثقيل في "إن" فربما لزمت اللام وربما لم تلزم. وقال : "إن" بمعنى "ما" واللام بمنزلة إلا. الفراء
[ ص: 372 ] ولما حولت القبلة كان من قول اليهود : يا محمد إن كانت الأولى حقا فأنت الآن على باطل، وإن كانت هذه حقا فكنت في الأولى على ضلال فوجست نفوس بعض المؤمنين، وأشفقوا على من مات قبل التحويل على صلاتهم السالفة فنزلت: وما كان الله ليضيع إيمانكم .
وخاطب الحاضرين، والمراد من حضر ومن مات، لأن الحاضر يغلب، كما تقول العرب : ألم نقتلكم في موطن كذا؟ ومن خوطب لم يقتل ولكنه غلب لحضوره، وقرأ "ليضيع" بفتح الضاد وشد الياء. الضحاك
وقال ، ابن عباس ، والبراء بن عازب ، وقتادة ، والسدي ، وغيرهم: الإيمان هنا: الصلاة، وسمى الصلاة إيمانا لما كانت صادرة عن الإيمان والتصديق في وقت والربيع بيت المقدس وفي وقت التحويل.
ولما كان الإيمان قطبا عليه تدور الأعمال، وكان ثابتا في حال التوجه هنا، وهنا ذكره إذ هو الأصل الذي به يرجع في الصلاة وغيرها إلى الأمر والنهي.
ولئلا تندرج في اسم الصلاة صلاة المنافقين إلى بيت المقدس ، فذكر المعنى الذي هو ملاك الأمر.
وأيضا فسميت إيمانا إذ هي من شعب الإيمان.
[ ص: 373 ] والرأفة أعلى منازل الرحمة، وقرأ قوم: "لرؤف" على وزن فعل، ومنه قول : الوليد بن عقبة
وشر الطالبين -ولا تكنه -بقاتل عمه الرؤف الرحيم