قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين
المقصد تقلب البصر، وذكر الوجه لأنه أعم وأشرف، وهو المستعمل في طلب الرغائب، تقول: بذلت وجهي في كذا، وفعلت لوجه فلان، ومنه قول الشاعر:
رجعت بما أبغي ووجهي بمائه .................
وأيضا فالوجه يتقلب بتقلب البصر، وقال قتادة وغيرهما: والسدي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في الدعاء إلى الله تعالى، أن يحوله إلى قبلة مكة ، وقيل: كان يقلب ليؤذن له في الدعاء .
ومعنى التقلب نحو السماء أن السماء جهة قد تعود العالم منها الرحمة كالمطر [ ص: 374 ] والأنوار والوحي، فهم يجعلون رغبتهم حيث توالت النعم. و"ترضاها" معناه: تحبها وتقر بها عينك.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الكعبة والتحول عن بيت المقدس لوجوه ثلاثة رويت، فقال : لقول اليهود : ما علم مجاهد محمد دينه حتى اتبعنا، وقال : وليصيب قبلة ابن عباس إبراهيم عليه السلام، وقال ، الربيع : وليستألف والسدي العرب لمحبتها في الكعبة ، وقال : إنما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته حيال عبد الله بن عمر ميزاب الكعبة ، وقال ، وغيره: بل وجه إلى ابن عباس البيت كله.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والميزاب: هو قبلة المدينة والشام ، وهنالك قبلة أهل الأندلس بلا ريب، ولا خلاف أن الكعبة قبلة من كل أفق.
وقوله تعالى: فول وجهك شطر المسجد الحرام الآية، أمر بالتحول ونسخ لقبلة الشام .
وقيل: نزل ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في صلاة الظهر بعد ركعتين منها فتحول في الصلاة . وذكر أبو الفرج أن عباد بن نهيك كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الصلاة. وقيل: إنما نزلت هذه الآية في غير صلاة وكانت أول صلاة إلى الكعبة العصر، و"شطر" نصب على الظرف، ويشبه المفعول به لوقوع الفعل عليه، ومعناه: نحو وتلقاء.
[ ص: 375 ] قال ابن أحمر :
تعدو بنا شطر جمع وهي عاقدة قد كارب العقد من إيفادها الحقبا
أقول لأم زنباع أقيمي صدور العيس شطر بني تميم
وقد أظلكم من شطر ثغركم هول له ظلم تغشاكم قطعا
ألا من مبلغ عمرا رسولا وما تغني الرسالة شطر عمرو
وقوله تعالى: ولئن أتيت الآية، أعلم الله تعالى نبيه حين قالت له اليهود : راجع بيت المقدس ونؤمن بك، مخادعة منهم أنهم لا يتبعون له قبلة، يعني جملتهم; لأن البعض قد اتبع وغيره، وأنهم لا يدينون بدينه، أي فلا تصغ إليهم. كعبد الله بن سلام
والآية هنا: العلامة. وجاء جواب "لئن" كجواب "لو" وهي ضدها في أن "لو" تطلب المضي والوقوع و "إن" تطلب الاستقبال لأنهما جميعا يترتب قبلهما معنى القسم، فالجواب إنما هو للقسم لا أن أحد الحرفين يقع موقع الآخر. هذا قول . سيبويه
وقوله تعالى: وما أنت بتابع قبلتهم ، لفظ خبر يتضمن الأمر، أي: فلا تركن إلى شيء من ذلك.
وقوله تعالى: وما بعضهم الآية، قال السدي : المعنى: ليست اليهود متبعة قبلة النصارى ، ولا النصارى متبعة قبلة اليهود ، فهذا إعلام باختلافهم وتدابرهم وضلالهم، وقال غيرهما: معنى الآية: وما من أسلم معك منهم بمتبع قبلة من لم يسلم، ولا من لم يسلم بمتبع قبلة من أسلم، والأول أظهر في الأبعاض. وابن زيد
[ ص: 377 ] وقبلة النصارى مشرق الشمس، وقبلة اليهود بيت المقدس .
وقوله تعالى: ولئن اتبعت الآية، خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، وما ورد من هذا النوع الذي يوهم من النبي صلى الله عليه وسلم ظلما متوقعا فهو محمول على إرادة أمته، لعصمة النبي صلى الله عليه وسلم، وقطعنا أن ذلك لا يكون منه فإنما المراد من يمكن أن يقع ذلك منه، وخوطب النبي صلى الله عليه وسلم تعظيما للأمر.
والأهواء جمع هوى، ولا يجمع على أهوية، على أنهم قد قالوا: ندى وأندية قال الشاعر:
في ليلة من جمادى ذات أندية لا يبصر الكلب في ظلمائها الطنبا