إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم
الصفا والمروة : جبيلان بمكة .
و "الصفا" جمع صفاة، وقيل هو: اسم مفرد جمعه صفى وأصفاء، وهي الصخرة العظيمة، قال الراجز:
[ ص: 389 ]
...................................... مواقع الطير على الصفى
وقيل: من شروط الصفا البياض والصلابة.و"المروة" : واحدة المرو، وهي الحجارة الصغار التي فيها لين.
ومنه قول الذي أصاب شاته الموت من الصحابة: فذكيتها بمروة ، ومنه قول الأمين : أخرجني إلى أخي، فإن قتلني فمروة كسرت مروة، وصمصامة قطعت صمصامة، وقد قيل في المرو: إنها الصلاب، قال الشاعر:
وتولى الأرض خفا ذابلا فإذا ما صادف المرو رضخ
حتى كأني للحوادث مروة بصفا المشقر كل يوم تقرع
قال قوم: ذكر الصفا لأن آدم وقف عليه، ووقفت حواء 1 على المروة فأنثت لذلك.
[ ص: 390 ] وقال : كان على الشعبي الصفا صنم يدعى إسافا وعلى المروة صنم يدعى نائلة فاطرد ذلك في التذكير والتأنيث، وقدم المذكر.
و من شعائر الله معناه: من معالمه ومواضع عبادته، وهي جمع شعيرة أو شعارة. وقال : ذلك راجع إلى القول، أي مما أشعركم الله بفضله، مأخوذ من تشعرت إذا تحسست، وشعرت مأخوذ من الشعار وهو ما يلي الجسد من الثياب، والشعار مأخوذ من الشعر. مجاهد
ومن هذه اللفظة هو الشاعر.
و"حج" معناه: قصد وتكرر، ومنه قول الشاعر:
وأشهد من عوف حلولا كثيرة يحجون سب الزبرقان المزعفرا
يحج مأمومة في قعرها لجف ......................................
والـ "جناح": الإثم والميل عن الحق والطاعة. ومن اللفظة الجناح لأنه في شق، ومنه قيل للخباء: جناح لتمايله وكونه كذي أجنحة، ومنه: وإن جنحوا للسلم فاجنح لها .
[ ص: 391 ] و"يطوف" أصله يتطوف، سكنت التاء وأدغمت في الطاء، وقرأ أبو السمال : "أن يطاف"، وأصله يطتوف، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا فجاء يطتاف، أدغمت التاء بعد الإسكان في الطاء على مذهب من أجاز إدغام الثاني في الأول كما جاء في "مدكر"، ومن لم يجز ذلك قال: قلبت التاء طاء، ثم أدغمت الطاء في الطاء، وفي هذا نظر، لأن الأصلي أدغم في الزائد، وذلك ضعيف.
وروي عن ، ابن عباس ، وأنس بن مالك أنهم قرؤوا: "ألا يطوف" وكذلك في مصحف وشهر بن حوشب ، عبد الله بن مسعود "ألا يطوف"، وقيل: "ألا يطوف" بضم الطاء وسكون الواو. وأبي بن كعب
وقوله: إن الصفا والمروة من شعائر الله خبر يقتضي الأمر بما عهد من الطواف بهما، وقوله: فلا جناح ، ليس المقصد منه إباحة الطواف لمن شاء لأن ذلك بعد الأمر لا يستقيم، وإنما المقصد منه رفع ما وقع في نفوس قوم من العرب من أن الطواف بينهما فيه حرج، وإعلامهم أن ما وقع في نفوسهم غير صواب.
واختلف في كيفية ذلك. فروي أن الجن كانت تعرف وتطوف بينهما في الجاهلية، فكانت طائفة من تهامة لا تطوف بينهما في الجاهلية لذلك، فلما جاء الإسلام تحرجوا من الطواف، وروي عن رضي الله عنها أن ذلك في عائشة الأنصار ، وذلك أنهم كانوا يهلون لمناة التي كانت بالمشلل حذو قديد، ويعظمونها، [ ص: 392 ] فكانوا لا يطوفون بين إساف ونائلة إجلالا لتلك، فلما جاء الإسلام تحرجوا فنزلت هذه الآية. وروي عن أن الشعبي العرب التي كانت تطوف هنالك، كانت تعتقد ذلك السعي إجلالا لإساف ونائلة ، وكان الساعي يتمسح بإساف ، فإذا بلغ المروة تمسح بنائلة ، وكذلك حتى تتم أشواطه فلما جاء الإسلام كرهوا السعي هنالك إذ كان بسبب الصنمين واختلف العلماء فيالصفا والمروة . السعي بين
فمذهب مالك أن ذلك فرض ركن من أركان الحج لا يجزي تاركه أو ناسيه إلا العودة، ومذهب والشافعي وأصحاب الرأي أن الدم يجزي تاركه، وإن عاد فحسن، فهو عندهم ندب. الثوري
وروي عن : إن ترك أكثر من ثلاثة أشواط فعليه دم، وإن ترك ثلاثة فأقل فعليه لكل شوط إطعام مسكين. وقال أبي حنيفة : ليس على تاركه شيء لا دم ولا غيره، واحتج عطاء بما في مصحف عطاء : "ألا يطوف بهما"، وهي قراءة خالفت مصاحف الإسلام، وقد أنكرتها ابن مسعود رضي الله عنها في قولها عائشة لعروة حين قال لها: أرأيت قول الله: فلا جناح عليه أن يطوف بهما فما نرى على أحد شيئا ألا يطوف [ ص: 393 ] بهما) قالت: يا عرية كلا، لو كان ذلك لقال: فلا جناح عليه ألا يطوف بهما .
وأيضا فإن ما في مصحف يرجع إلى معنى "أن يطوف" وتكون "لا" زائدة صلة في الكلام كقوله: ابن مسعود ما منعك ألا تسجد ، وكقول الشاعر:
ما كان يرضى رسول الله فعلهم والطيبان ولا أبو بكر عمر
وكقول الآخر:
وما ألوم البيض ألا تسخرا ......................................
وقرأ قوم من السبعة وغيرهم: "ومن يطوع" بالياء من تحت على الاستقبال والشرط، والجواب في قوله: "فإن".
وقرأ ، ابن كثير ، ونافع وأبو عمر ، : "تطوع" على بابه في المضي فـ "من" على هذه القراءة بمعنى الذي. ودخلت الفاء في قوله: "فإن" للإبهام الذي في "من". حكاه وعاصم ، وقال مكي : يحتمل "تطوع" أن يكون في موضع جزم و"من" شرطية، ويحتمل أن تكون "من" بمعنى الذي والفعل صلة لا موضع له من الإعراب، والفاء مؤذنة أن الثاني وجب لوجوب الأول. أبو علي
ومن قال بوجوب السعي قال: معنى "تطوع" أي زاد برا بعد الواجب فجعله عاما في الأعمال، وقال بعضهم: معناه: من تطوع بحج أو عمرة بعد حجة الفريضة.
ومن لم يوجب السعي قال: المعنى من تطوع بالسعي بينهما. وفي قراءة : "فمن تطوع بخير". ابن مسعود
[ ص: 394 ] ومعنى "شاكر": أي يبذل الثواب والجزاء، "عليم" بالنيات والأعمال، لا يضيع معه لعامل بر -ولا غيره- عمل.
وقوله تعالى: إن الذين يكتمون الآية، المراد بالذين: أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم، قال : وقد روي أن معينين منهم سألهم قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عما في كتبهم من أمره، فكتموا، فنزلت. الطبري
وتتناول الآية بعد، كل يحتاج إلى بثه، وذلك مفسر في قول النبي صلى الله عليه وسلم: من كتم علما من دين الله . وهذا إذا كان لا يخاف ولا ضرر عليه في بثه. وهذه الآية أراد من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار رضي الله عنه في قوله: لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم حديثا ، وقد ترك أبو هريرة ذلك حين خاف فقال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: أما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم ، وهذه الآية أراد أبو هريرة رضي الله عنه في قوله: لأحدثنكم حديثا لولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه . ومن روى في كلام عثمان : لولا أنه في كتاب الله . فالمعنى غير هذا. عثمان
و البينات والهدى أمر محمد صلى الله عليه وسلم. ثم يعم بعد كل ما يكتم من خير.
وقرأ : "من بعد ما بينه" على الإفراد. طلحة بن مصرف
و في الكتاب يراد به التوراة والإنجيل بحكم سبب الآية، وأنها في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، [ ص: 395 ] ثم يدخل القرآن مع تعميم الآية، وقد تقدم معنى اللعنة، واختلف في اللاعنين، فقال ، قتادة : الملائكة والمؤمنون، وهذا ظاهر واضح جار على مقتضى الكلام. وقال والربيع مجاهد : هم الحشرات والبهائم يصيبهم الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين فيلعنونهم، وذكروا بالواو والنون كمن يعقل، لأنهم أسند إليهم فعل من يعقل، كما قال: وعكرمة رأيتهم لي ساجدين . وقال : اللاعنون" كل المخلوقات ما عدا الثقلين الجن والإنس، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: البراء بن عازب "إن الكافر إذا ضرب في قبره فصاح; سمعه الكل إلا الثقلين فلعنه كل سامع . وقال : المراد بها ما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ابن مسعود إن كل متلاعنين إن استحقا اللعنة وإلا انصرفت على اليهود ، وهذه الأقوال الثلاثة لا يقتضيها اللفظ، ولا تثبت إلا بسند يقطع العذر.
ثم استثنى الله تعالى التائبين، وقد تقدم معنى التوبة.
و"أصلحوا" أي في أعمالهم وأقوالهم "وبينوا"، قال من فسر الآية على العموم: معناه بينوا توبتهم بمبرز العمل والبروع فيه، ومن فسرها على أنها في كاتمي أمر محمد قال: المعنى بينوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم فتجيء الآية فيمن أسلم من اليهود والنصارى ، وقد تقدم وأنها رجوعه به عن المعصية إلى الطاعة. معنى توبة الله على عبده،