لما ختمت النجم بالتهديد باقتراب القيامة التي ينكرونها بعد أن [ ص: 87 ] فتحها بالأقسام البلس في النجم الذي هو أعم من القمر وغيره بتسييره طلوعا وأفولا وصعودا وهبوطا، افتتح هذه بذلك مع الدلالة عليه عقلا وسمعا في التأثير في أعظم آيات الله وغير ذلك ليقطع العباد عن الفساد، ويستعدوا لها قبل مجيئها أحسن استعداد، فقال دالا على عظيم اقتداره عليها بتأنيث فعلها: اقتربت الساعة اشتدت قربا الساعة: اللحظة التي لا ساعة في الحقيقة غيرها التي تقوم فيها القيامة لأنه قل ما بقي بيننا وبينها بالنسبة إلى ما مضى من زمن آدم عليه السلام لبعث خاتم الأنبياء الذي لم يبق بعد أمته أمة تنتظر، فيكون في الزمان مهلة لذلك.
ولما كان الإخبار باقترابها يحتاج عند المعاند إلى آية دالة عليه، وكانت الآيات السماوية أعظم، فالتأثير فيها أدل على تمام الاقتدار، وكان القمر أدل على الأنواء التي بها منافع الخلق في معاشهم، وكانت العرب أعرف الناس بها، دلهم على التأثير فيه على اقترابها مع الإرهاب من شدائد العذاب بإعدام الأسباب فقال: وانشق بغاية السرعة والسهولة القمر آية للرسول المنذر لكم بها، فكان انشقاقه - مع الدلالة على ذلك بإعجاز القرآن وغيره - دالا على كونها وقربها أيضا بالتأثير العظيم الخارق لعادة ما قبله من التأثير في أحد النيرين اللذين هما أعظم الأسباب المقامة للمعايش الدال على القدرة على التأثير في الآخرة الدال ذلك على القدرة على تمام التصرف فيهما من جمعهما وخسفهما واعتدامهما ولسببهما الذي هو من أسباب خراب الأرض، يقول الإنسان عنده: أين المفر؟ المؤذن بطي العالم المعلم بأن له ربا فاعلا بالاختيار مدبرا بالحكم [ ص: 88 ] الدال على بعث عباده ليحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، فيثيب من تابع رسله ويعاقب من خالفهم، أمر شهير جدا، وإجماع أهل التفسير عليه كما قاله وانشقاق القمر على حقيقته في زمان النبي صلى الله عليه وسلم القشيري، وقال: رواه رضي الله عنه ولا مخالف له فيه - انتهى. وذلك ابن مسعود - رواه الشيخان عن أن قريشا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية "فأراهم انشقاق القمر بحيث طلعت فرقة عن يمين حراء وأخرى عن يساره" وأنس رضي الله عنهما، ومعلوم أن الأمة تلقت كتابيهما بالقبول فهو يكاد يلحق بالمتواتر وقد أيده القرآن فلم يبق فيه شك، قال ابن مسعود القشيري: وروى أيضا ابن عمر وحذيفة وابن عباس رضي الله عنهم، وقال وجبير بن مطعم أبو حيان : أن مشركي العرب من قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين، ووعدوه بالإيمان إن فعل ذلك، وكانت ليلة البدر فسأل ربه فانشق - انتهى، ومن قال: المراد به "سينشق" يحتاج في صرف الماضي عن حقيقته إلى المستقبل إلى صارف وأنى له ذلك ولا سيما وقد تأيدت الحقيقة بالنسبة الصحيحة الشهيرة. سبب نزولها
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما أعلمهم سبحانه بأن إليه المنتهى، وأن عليه النشأة الأخرى، وإذ ذاك يقع جزاء كل نفس بما أسلفت، أعلمهم سبحانه بقرب ذلك وحسابه ليزدجر من وفقه للازدجار فقال تعالى: اقتربت الساعة وانشق القمر ثم إن سورة ص تضمنت من عناد [ ص: 89 ] المشركين وسوء حالهم وتوبيخهم في عبادتهم ما لا يضر ولا ينفع ما يكاد يوجد في غيرها مما تقدمها، وبعد التنبيه في السورة قبلها والتحريك بآيات لا يتوقف عنها إلا من أضله الله وخذله، وأثبتت السورة بعد على تمهيد ما تضمنته سورة ص فلم يخل سورة منها من توبيخهم وتقريعهم لقوله في الزمر والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى وقوله: لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء وقوله: قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه وقوله مثلا لحالهم: ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون الآية إلى ما بعد من التقريع والتوبيخ، وقوله في سورة غافر: ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد وقوله: ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله وقوله: أفلم يسيروا في الأرض الآية، وقوله: إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه وقوله: ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون إلى قوله: فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون وقوله: أولم يسيروا في الأرض إلى ما تخلل هذه الآيات، وقوله في السجدة فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا إلى قوله: أولئك ينادون من مكان بعيد وقوله: سنريهم آياتنا في الآفاق [ ص: 90 ] وفي أنفسهم إلى آخر السورة، وقوله في الشورى: والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل كبر على المشركين ما تدعوهم إليه والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم الآية أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله الآية فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ وقوله في الزخرف: أفنضرب عنكم الذكر صفحا الآية، وجعلوا له من عباده جزءا إلى ما تردد في هذه السورة مما قرعوا به أشد التقريع، وتكرر في آيات كثيرة فتأملها مثل قوله تعالى في الدخان بل هم في شك يلعبون إلى قوله: يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون وقوله: إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين إلى قوله هذا ما كنتم به تمترون وقوله في الجاثية: " فبأي حديث بعده يؤمنون " إلى قوله: والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم وقوله: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه إلى آخر السورة، وقوله في الأحقاف: والذين كفروا عما أنذروا معرضون ومعظم هذه الآية لم يخرج عن هذا إلى ختامها، وكذلك سورة القتال ولم يتضمن إلا الأمر بقتلهم وأسرهم وتعجيل حربهم فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب وأما سورة الفتح فما تضمنته من البشارة والفتح أشد على الكفار من كل ما قرعوا به، ولم تخرج عن الغرض المتقدم، وكذا سورة الحجرات لتضمنها من الأمر بتقدير النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله ما يقر عين المؤمن ويقتل العدو الحاسد وما فيها [ ص: 91 ] أيضا من إتلاف أمر المؤمنين وجمع كلمتهم وتآخيهم، وموقع هذا لا يخفى على أحد، وأما سورة الذاريات والطور والنجم فما تضمنته مما ذكرناه قبل أوضح شيء، وبذلك افتتحت كل سورة منها فتأمل مطالعها ففي ذلك كفاية في الغرض - والله تعالى هو أعلم بالصواب، فلما انتهى ما قصد من تقريع مكذبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغت الآي في هذه السورة من ذلك أقصى غاية، وتمحض باطلهم وانقطع دابرهم، ولم يحيروا جوابا فيما عرض عليهم سبحانه في سورة القمر من أحوال الأمم مع أنبيائهم، وكان القصد من ذلك - والله أعلم - مجرد التعريف بأنهم ذكروا فكذبوا فأخذوا ليتبين لهؤلاء أن لا فرق بينهم وبين غيرهم وأن لا يغرهم عظيم حلمه سبحانه عنهم، فهذه السورة إعذار عند تبكيتهم وانقطاع حجتهم بما تقدم وبعد أن انتهى الأمر في وعظهم وتنبيههم بكل آية إلى غاية يعجز عنها البشر، ولهذا افتتح سبحانه هذه السورة بقوله تعالى: ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغن النذر وختمها سبحانه بقوله: أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر وهذا يبين ما قدمنا، وكان قد قيل لهم: أي فرق بينكم وبين من تقدم حتى ترتكبوا مرتكبهم وتظنوا أنكم ستفوزون بعظيم جزائكم، فذكر سبحانه لهم قصة كل أمة وهلاكها عند تكذيبها بأعظم إيجاز وأجزل إيراد وأفخم عبارة وألطف إشارة، فبدأ بقصة قوم نوح بقوله: كذبت قوم نوح إلى قوله: ولقد تركناها آية فهل من مدكر فكيف كان عذابي ونذر ثم استمر في ذكر الأمم [ ص: 92 ] مع أنبيائهم حسبما ذكروا في السورة الوارد فيها إخبارهم من ذكر أمة بعد أمة إلا أن الواقع هنا من قصصهم أوقع في الزجر وأبلغ في الوعظ وأعرق في الإفصاح بسوء منقلبهم وعاقبة تكذيبهم، ثم ختمت كل قصة بقوله: فكيف كان عذابي ونذر وتخلل هذه القصص بقوله تعالى: ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر وهي إشارة إلى ارتفاع عذر من تعلق باستصعاب الأمور على زواجره وتنبيهاته ومواعظه ويدعي بعد ذلك واستغلاقه فقيل له إنه ميسر قريب المرام، وهذا فيما يحصل عند التنبيه والتذكير لما عنده بكون الاستجابة بإذن الله تعالى ووراء ذلك من المشكل والمتشابه ما لا يتوقف عليه ما ذكره وحسب عموم المؤمنين الإيمان بجميعه والعمل بمحكمه، ثم يفتح الله تعالى فهم ذلك على من شرفه به وأعلى درجته، فيتبين بحسب ما يشرح الله تعالى صدره يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ومن تيسر المقصود المتقدم تكرار قصص الأنبياء مع أممهم في عدة سور أي حفظ منها اطلع على ما هو كاف في الاعتبار بهم، ثم إذا ضم بعضه إلى بعض اجتمع منه ما لم يكن ليحصل من بعض تلك السورة، فسبحان من جعله حجة باهرة وبرهانا على صدق الآتي به محمد صلى الله عليه وسلم، وصراطا مستقيما ونورا مبينا، ولما ذكر سبحانه قال لمشركي العرب: عواقب الأمم في تكذيبهم أكفاركم خير من أولئكم ومن هذا النمط قول شعيب عليه السلام: ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد [ ص: 93 ] ثم قال تعالى: أم يقولون نحن جميع منتصر سيهزم الجمع ويولون الدبر أي إنكم تعلقتم بتألفكم وجماعتكم فسأفرق ذلك بهزيمتكم يوم بدر بقتل صناديدكم فما حجتكم بعد هذا، إنما مساق القصص في هذه السورة واعتماد التعريف بحال من ذكر في أن كذبوا وعاندوا، فأعقب تكذيبهم أخذهم وهلاكهم، ثم تعقب هذا كله بصرف الكلام في مشركي العرب في قوله: أكفاركم خير من أولئكم وليس شيء من السور المذكورة فيها قصص على هذا الاستيفاء كالأعراف وهود، وبظاهرهما ليس في شيء من ذلك تعقيب بذكر مشركي العرب على الصفة الواردة هنا، فأنبأ ذلك بكمال المقصود من الوعظ والتحريك بذكره وانقضاء هذا الغرض، وذلك أنهم ذكروا أولا بعرض أحوال الأمم والتعريف بما آل إليه أمرهم، وكان ذلك في صورة عرض من يريد تأديب طائفة من إليه نظرهم قبل أن يظهر منهم تمرد وعناد، فهو يستلطف في دعائهم ولا يكلمهم تكليم الواجد عليهم، بل يفهم الإشفاق والاستعطاف وإرادة الخير بهم ثم يذكرهم بذلك ويكرره عليهم المرة بعد المرة وإن تخلل ذلك ما يبين منهم فظاعة التهديد وشدة الوعيد، فلا يصحبه تعيين المخاطب وصرف الكلام بالكلية إليه، بل يكون ذلك على طريق التعريض والتوبيخ، ثم لو كان لا يحتقر بما قبله وما بعده من التلطف حتى إذا تكررت الموعظة فلم تقبل، فهنا محل الغضب وشدة الوعيد، وعلى هذا وردت السور المذكور فيها حال الأمم كسورة الأعراف وهود والمؤمنين والظلة والصافات، وما من سورة منها إلا [ ص: 94 ] والتي بعدها أشد في التعريف وآمل في الزجر بعد التعريف، فتأمل تعقيب القصص في سورة الأعراف بقوله تعالى: وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون وقوله بعد موعظة بالغة بذكر من حرمه بعد إشرافه على الفوز وهو الذي أخلد إلى الأرض واتبع هواه فقال بعد ذلك فاقصص القصص لعلهم يتفكرون وتذكيره إياه لمحنة الغفلة إلى ما ختمت به السورة وذلك غير خاف في التلطف بالموعظة وقال تعالى بعد قصص سورة هود: وكذلك أخذ ربك الآية، وقال تعالى: فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء - إلى قوله - وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص وتكرار الآية إلى آخر السورة يجاري ما ذكر ولم تبق هذه وآي الأعراف في تلطف الاستدعاء، وقال تعالى في قصص آخر سورة المؤمنين: فذرهم في غمرتهم حتى حين - إلى قوله - لا يشعرون ثم قال: ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون استمرت الآي على شدة الوعيد يتلو بعضها بعضا إلى قوله: أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون وقوله تعالى بعد: إنه لا يفلح الكافرون ولم يبين هذه الآي، وبين الواقعة عقب قصص سورة هود، وقال في آخر قصص الظلة: وإنه لتنـزيل رب العالمين إلى قوله خاتمة السورة: وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون فوبخهم وعنفهم ونزه نبيه صلى الله عليه وسلم عن توهمهم وعظيم إفكهم وافترائهم، وكل هذا تعنيف وإن لم يتقدم له مثله في السورة المذكورة، ثم هو صريح في مشركي العرب معين لهم في غير [ ص: 95 ] تلويح ولا تعريض، ثم إنه وقع عقب كل قصة في هذه السورة قوله تعالى: إن في ذلك وفيه تهديد ووعيد، وقال تعالى في آخر الصافات: فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون وهذا أعظم التوبيخ وأشد التقريع، ثم نزه نبيه سبحانه عن بهتان مقالهم وسوء ارتكابهم وقبح فعالهم، بقوله: سبحان ربك رب العزة عما يصفون فلما أخذوا بكل مأخذ فما أغنى ذلك عنهم قال تعالى في سورة القمر: ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغن النذر ثم قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: فتول عنهم ولم يقع أمره صلى الله عليه وسلم بتركهم والإعراض عنهم والتولي إلا بعد حصول القصص في السورة المذكورة وأخذهم بكل طريق، وأول أمره بذلك صلى الله عليه وسلم في سورة السجدة فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون ثم في سورة الذاريات فتول عنهم فما أنت بملوم بأشد وعيد وأعظم تهديد بعقب كل قصة بقوله: ولقد تركناها آية فهل من مدكر وقوله: فكيف كان عذابي ونذر ثم صرف إليهم بما تقدم قوله: أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر فبلغ ذلك أعظم مبلغ في البيان وإعذار، ثم قال تعالى: وكل شيء فعلوه في الزبر ففرق سبحانه بسابق حكمته فيهم إنا كل شيء خلقناه بقدر وانقضى ذكر القصص فلم يتعرض لها مستوفاة على هذا المساق فيما بعد إلى آخر الكتاب - فسبحان من رحم به عباده المتقين وجعله آية وأي [ ص: 96 ] آية باهرة إلى يوم الدين، وقطع عناد الجاحدين وغائلة المعتدين وجعله بيانا كافيا ونورا هاديا وواعظا شافيا - جعلنا الله سبحانه وتعالى ممن اهتدى واعتلق بسببه إنه أهل الاستجابة والعفو والمغفرة - انتهى.