ولما دل على [أن] هذا الثناء للصادقين في الإيمان بإقامة السنة بالهجرة والإيثار والاجتهاد في الدعاء لمن تبين الإيمان فسهل به طريق الأمان، فأخرج ذلك المنافقين وأفهم أنهم لا يفعلون ذلك لأنهم لا رسوخ لهم في الإيمان الحامل على ذلك، دل على نفاقهم الموجب لكذبهم بقوله متمما للقصة مخاطبا لأعلى الخلق إشارة إلى أنه لا يطلع على نفاقهم لما لهم فيه من دقة المكر حق الاطلاع غيره صلى الله عليه وسلم معجبا من حالهم في عدم رسوخهم مع ما يرون من المعجزات والآيات البينات ويرون من حال المؤمنين من إسباغ الرحمة عليهم بتسهيل الأمور والنصرة على الجبابرة والإعراض عن الدنيا مع الإقبال على الآخرة والاجتهاد في الدين [الذي] هو وحده داع إلى الإيمان ومرقق للقلوب ومبين للحقائق غاية البيان: ألم تر أي تعلم علما هو في قوة الجزم [به] كالمشاهد يا أعلى الخلق، وبين بعدهم عن جنابه العالي ومنصبه الشريف الغالي بأداة الانتهاء فقال تعالى: [ ص: 446 ] إلى الذين نافقوا أي أظهروا غير ما أضمروا، أظهروا الخير وبالغوا في إخفاء عقائدهم بالشر مبالغة من ساجل غيره، وهم عبد الله بن أبي وأصحابه، قالوا: والنفاق لفظ إسلامي لم تكن العرب تعرفه قبله، وهو استعارة من فعل الضب في نافقائه وقاصعائه، وصور حالهم بقوله: يقولون لإخوانهم أي من الموالاة بالضلالة.
ولما جمعهم في الكفر وإن افترقوا في المساترة والمجاهرة، وصف المجاهرين بنوع مساترة توجب النفرة منهم وتقضي بهلاك من صادقهم فقال: الذين كفروا أي غطوا أنوار المعارف التي دلتهم على الحق، وعينهم بما أبلغ في ذمهم من حيث إنهم ضلوا على علم فقال: من أهل الكتاب وهم بنو النضير هؤلاء، وبكتهم بكذبهم فيما أكدوا الموعد به لأنه في حيز ما ينكر من جهة أنهم لا يقدرون على المجاهرة بكفرهم فكيف بالمبارزة بالخلاف لقومهم الأنصار والنبي صلى الله عليه وسلم فيهم في قولهم: لئن أخرجتم [أي] من مخرج ما من بلدهم الذي في المدينة الشريفة فخرجتم من غير أن تقاتلوا لنخرجن معكم فكان ما قضي به على إخوانهم من الإخراج فألا وكل بمنطقهم. [ ص: 447 ] ولما كان من المعلوم [أن للمنافقين أقارب من أكابر المؤمنين، وكان من المعلوم -] أنهم يقومون عليهم في منعهم من القيام معهم نصيحة لهم وإحسانا إليهم، وكان تجويز بني النضير موهنا لذلك، قالوا مؤكدين للكون معهم: ولا نطيع فيكم أي في خذلانكم، والمعنى أنه لو فرض أنه صار أحد في القرب منكم مثل قرب المظروف من الظرف ما أطعناه في التقصير فيما يسركم أحدا أي يسألنا خذلانكم من الرسول والمؤمنين، وأكدوا بقولهم: أبدا أي ما دمنا نعيش، وبمثل هذا العزم استحق الكافر الخلود الأبدي في العذاب.
ولما قدموا في معونتهم ما كان فألا قاضيا عليهم، أتبعوه قولهم: وإن قوتلتم أي من أي مقاتل كان فقاتلتم ولم تخرجوا لننصرنكم فالآية من الاحتباك: ذكر الإخراج أولا دليلا على ضده ثانيا، والقتال ثانيا دليلا على حذف ضده أولا، ومعنى الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى بني النضير: اخرجوا من بلدي ولا تساكنوني، قد هممتم بالغدر بي وقد أجلتكم عشرا، فمن رئي بعد ذلك منكم ضربت عنقه ، فأرسل إليهم ابن أبي بما تقدم.
ولما كان قولهم هذا كلاما يقضي عليه سامعه بالصدق من حيث [ ص: 448 ] كونه مؤكدا مع كونه مبتدأ من غير سؤال فيه، بين حاله سبحانه بقوله: والله أي يقولون ذلك والحال أن المحيط بكل شيء قدرة وعلما يشهد بما يعلم من بواطنهم في عالم الغيب. ولما كان بعض من يسمع قولهم هذا ينكر أن لا يطابقه الواقع، وكان إخلافهم فيه متحققا في علم الله، أطلق عليه ما لا يطلق إلا على ما كشف الواقع عن أنه غير مطابق، فقال تشجيعا للمؤمنين على قتالهم مؤكدا إنهم أي المنافقين لكاذبون وهذا من أعظم دلائل النبوة لأنه إخبار بمغيب بعيد عن العادة بشهادة ما ظننتم أن يخرجوا فحققه الله عن قريب.