ولما أعلى سبحانه أولياءه بأن فتح السورة [بالإيمان] بالغيب وهو العزيز الحكيم بعد التنزيه عن نقائص التعطيل وكل شائبة نقص وينزل لعباده في أسباب الصفات والأفعال إلى أن أوصلهم إلى محسوس الأمثال فتأهلوا للفناء في ذاته وما على صفاته الموجبة لخشيته، رقاهم إلى التفكر في تفصيل ما افتتح به، فقال عادلا عن أسلوب العظمة إلى [ ص: 464 ] أعظم منها بإسبال حجب العزة على منهاج الحكمة: هو أي الذي وجوده من ذاته فلا عدم له أصلا بوجه من الوجوه، فلا يستحق الوصف بـ "هو" غيره لأنه الموجود دائما أزلا وأبدا، فهو حاضر في كل ضمير غائب بعظمته عن كل حس، فلذلك يتصدع الجبل من خشيته.
ولما عبر بأخص أسمائه، أخبر عنه لطفا بنا وتنزلا لنا بأشهرها الذي هو مسمى الأسماء كلها فقال: الله أي المعبود الذي لا ينبغي العبادة إلا له، الذي بطن بما لم تحط ولا تحيط [به] العقول من نعوت الكبرياء والعظمة والإكرام، فظهر بأفعاله التي لا تضاهى بوجه غاية الظهور، فتميز غاية التميز، فلم يلحقه شرك أصلا في أمة من الأمم ولا نسمة من النسم، قال الحرالي في شرح الأسماء: وهو لوه القلوب والعقول أي محارها الذي لا تدركه، فلزم الخلق من توحيد اسم الإله ما حصل لهم من توحيد اسم الله [من الأحدية الإحاطية - انتهى -] فلذلك [كان وصفه الذي لا إله إلا هو فإنه لا مجانس له ولا يليق ولا يصبح ولا يتصور أن يكافئه أو يدانيه شيء والإله أول اسم الله فلذلك -] [ ص: 465 ] وتوحيد سائر الأسماء نقل وهو أساس كل نافلة، فمن وحد [في] الكل فقد كمل دينه وتمت النعمة عليه وإلا كان من الذين آمنوا، فإن كان ذلك منه قولا عصم من نار الأحكام على الأبدان في الدنيا، وإن كان علما تخلص من نار الهلع على النفوس في الدنيا، وهو الجزع عند مس الشر، والمنع والبخل عند مس الخير، ولن يشهد التوحيد في هذه الكلمة التي مضمونها توحيد اسم الإله إحسانا إلا بعد إحصاء جميع الأسماء [علما]، قال لا يكون أحد مسلما إلا بتوحيده فتوحيده فرض وهو أساس كل فريضة، الحرالي: والإله: التعبد وهو التذلل، فمن توهم حاجته بشيء وتوهم أن عنده قوام حاجته تذلل فكان تذلله [له] تألها، وكل من عبد ما أحاط عينه فقد خذل عقله عن تصحيح معنى الإله الذي يجب أن يكون غيبا، فكان تصحيح معنى الإله أنه غيب قائم مستحق للعبادة والتذلل لأجل قيامه والاستغناء به.
ولما أخبر بتفرده، دل عليه بآية استحقاقه لذلك، فقال مقدما لما هو متقدم في الوجود: عالم الغيب أي الذي غاب عن علم جميع [ ص: 466 ] خلقه. ولما كان ربما ظن أن وصفه بالغيب أمر نسبي سمي غيبا بالنسبة لناس دون ناس، دل بذكر الضد على أن المراد كل ما غاب وكل ما شهد فقال تعالى: والشهادة أي الذي وجد فكان بحيث يحسه ويطلع عليه بعض خلقه.
ولما تعالى في صفات العظمة ونعوت الجلال والكبر فبطن غاية البطون، أخذ في رحمة العباد بالتنزل لهم بالتعرف إليهم بعواطف الرحمة فقال بانيا الكلام على الضمير إعلاما بأن المحدث عنه أولا هو بعينه المحدث عنه ثانيا: هو الرحمن أي العام الرحمة، قال رحمه الله تعالى: والرحمة إجراء الخلق على ما يوافق حسبهم ويلائم خلقهم وخلقهم ومقصد أفئدتهم، فإذا اختص ذلك بالبعض كان رحيمية، وإذا استغرق كان رحمانية، ولاستغراق معنى اسم الرحمن [لم يكن لإتمام معناه وجود في الخلق ، فلم يجر بحق على أحد منهم فلذلك لحق اسمه الرحمن -] في معنى استغراقه - يعني باسم الله. الحرالي
ولما كانت الرحيمية خاصة بما ترضاه الإلهية قال تعالى: الرحيم أي ذو الرحمة العامة المسعدة في الظاهر والرحمة الخاصة المسعدة في [ ص: 467 ] الباطن، قال الرحمة من الرحيم اختصاص من شملته الرحمانية بمزية ما أوثر به من الرحمة في مقابلة من آل أمره إلى نعمه ليجمع مقتضى الاسمين بين عموم الرحمانية واختصاص الرحيمية. ولما أظهر على الخلق خصوص الإيثار، أجرى عليهم اسم الرحيم كرحمة الخلق أبناءهم. [الحرالي]:
ولما كان حق اسم الرحيم إثبات رحمة غير مجذوذة ولم يكن ذلك للخلق لم يكن بالحقيقة الرحيم إلا الله الذي إذا اختص بالرحمة لم يحدها فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم "إن الله لا ينزع العلم انتزاعا بعد أن أعطاكموه" وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ فلذلك لا رحيم بالحقيقة إلا الله تحقيق علم كما أنه لا رحمن إلا الله بادي معنى.