ولما كان التأديب عقب الإنعام جديرا بالقبول، وكان قد أجرى سبحانه سنته الإلهية بذلك، فأدب عباده المؤمنين عقب سورة الفتح السببي بسورة الحجرات، وكانت سورة الحشر مذكرة بالنعمة في فتح بني النضير [ ص: 484 ] [و]معلمة بأنه لا ولي إلا الله، ولذلك ختمها بصفتي العزة والحكمة بعد أن افتتحها بهما، وثبت أن من الحكمة حشر الخلق، وأن أولياء الله هم المفلحون، وأن أعداءه هم الخاسرون، وكان الحب في الله والبغض في الله أفضل الأعمال وأوثق عرى الإيمان، ولذلك ذم سبحانه من والى أعداءه وناصرهم، وسماهم مع التكلم بكلمة الإسلام منافقين، أنتج [ذلك] قطعا وجوب البراءة من أعدائه والإقبال على خدمته وولائه، فقال معيدا للتأديب عقب سورة الفتح على أهل الكتاب بسورة جامعة تتعلق بالفتح الأعظم والفتح السببي: يا أيها الذين آمنوا مناديا بأداة البعد وإن كان من نزلت بسببه من أهل القرب، ومعبرا بالماضي إقامة لمن والى الكفار نوع موالاة في ذلك المحل إلهابا له وتهييجا إلى الترفع عنه لئلا يقدح في خصوصيته ويحط من علي رتبته مع اللطف [به] بالتسمية له بالإيمان حيث شهد سبحانه على من فعل نحو فعله مع بني النضير بالنفاق وأحله محل أهل الشقاق، فحكم على [ ص: 485 ] القلوب في الموضعين فقال هناك: الذين نافقوا كما قال هنا: الذين آمنوا
ولما كان قد تقدم في المجادلة وفي الحشر الزجر العظيم عن إبطان ذلك فتكفلت السورتان بالمنع من مصاحبة ودهم ظاهرا أو باطنا، بكت هنا من اتصف بالإيمان وقرعه و وبخه على السعي في موادتهم والتكلف لتحصيلها، فإن ذلك قادح في اعتقاد تفرده سبحانه بالعزة والحكمة، فعبر لذلك بصيغة الافتعال فقال بعد التبكيت بالنداء بأداة البعد والتعبير بأدنى أسنان الإيمان: النهي الشديد عن إظهار مطلق الموادة للكفار، لا تتخذوا وزاد في ذلك المعنى من وجهين: التعبير بما منه العداوة تجرئة عليهم وتنفيرا منهم والتوحيد لما يطلق على الجمع لئلا يظن أن المنهي عنه المجموع بقيد الاجتماع والإشارة إلى أنهم في العداوة على قلب واحد، فأهل الحق أولى بأن يكونوا كذلك في الولاية فقال: عدوي أي وأنتم تدعون موالاتي [ومن المشهور أن فكيف بما هو فوق الأدنى] وهو فعول من عدى، وأبلغ في الإيقاظ بقوله: مصادق العدو أدنى مصادقة لا يكون وليا وعدوكم أي [ ص: 486 ] العريق في عداوتكم ما دمتم على مخالفته في الدين.
ولما وحد لأجل ما تقدم من الإشارة إلى اتحاد الكلمة، بين أن المراد الجمع فقال: أولياء ثم استأنف بيان هذا الاتحاد بقوله مشيرا إلى غاية الإسراع والمبادرة إلى ذلك بالتعبير بقوله: تلقون أي جميع ما هو في حوزتكم مما لا تطمعون فيه إلقاء الشيء الثقيل من علو إليهم على بعدهم منكم حسا ومعنى بالمودة [أي] بسببها.
ولما توقع السامع التصريح بمضادتهم في الوصف الذي ناداهم به بعد التلويح إليه، قال ملهبا ومهيجا إلى عداوتهم بالتذكير بمخالفتهم إياه في الاعتقاد المستلزم لاستصغارهم لأنه أشد المخالفة وقد أي و الحال أنهم قد كفروا أي غطوا جميع ما لكم من الأدلة بما أي بسبب ما جاءكم من الحق أي الأمر الثابت الكامل في الثبات الذي لا شيء أعظم ثباتا منه، ثم استأنف بيان كفرهم بما يبعد من مطلق موادتهم فضلا عن السعي فيها بقوله مذكرا لهم بالحال الماضية زيادة في التنفير منهم ومصورا لها بما يدل على الإصرار بأنهم يخرجون الرسول أي الكامل في الرسلية الذي يجب على كل أحد عداوة من عاداه أدنى عداوة ولو كان أقرب الناس فكيف إذا كان عدوا، وبين أن المخاطب [من] أول السورة من المهاجرين وأن إيراده على وجه الجمع للسير [ ص: 487 ] والتعميم في النهي بقوله: وإياكم أي من دياركم من مكة المشرفة.
ولما بين كفرهم، معبرا بالمضارع إشارة إلى دوام أذاهم لمن آمن المقتضي لخروجه عن وطنه، علل الإخراج بما يحقق معنى الكفر والعداوة فقال: أن أي أخرجوكم من أوطانكم لأجل أن تؤمنوا أي توقعوا حقيقة الإيمان مع التجديد والاستمرار.
ولما كان الإيمان به سبحانه مستحقا من وجهي الذات والوصف لفت الخطاب . من التكلم إلى الغيبة للتنبيه عليهما فقال: بالله أي الذي ولما عبر بما أبان أنه مستحق للإيمان لذاته أردفه بما يقتضي وجوب ذلك لإحسانه فقال: اختص بجميع صفات الكمال، ربكم ولما ألهبهم على مباينتهم لهم بما فعلوا معهم وانقضى ما أريد من التنبيه بسياق الغيبة عاد إلى التكلم لأنه أشد تحببا وأعظم استعطافا وأدل على الرضا فألهبهم بما كان من جانبهم من ذلك [الفعل] أن لا يضيعوه، فقال معلما أن ولايته سبحانه لا تصح إلا بالإيمان، ولا يثبت الإيمان إلا بدلائله من الأعمال، ولا تصح الأعمال إلا بالإخلاص، ولا يكون الإخلاص إلا بمباينة الأعداء: إن كنتم أي كونا راسخا حين أخرجوكم من أوطانكم لأجل إيمانكم بي خرجتم أي منها وهي أحب البلاد إليكم جهادا أي لأجل الجهاد في سبيلي أي بسبب إرادتكم [ ص: 488 ] تسهيل طريقي التي شرعتها لعبادي أن يسلكوها وابتغاء مرضاتي أي ولأجل تطلبكم بأعظم الرغبة لرضاي ولكل فعل يكون موضعا له، وجواب هذا الشرط محذوف لدلالة لا تتخذوا عليه.
ولما فرغ من بيان [حال] العدو وشرط إخلاص الولي، وكان التقدير: فلا تتخذوهم أولياء، بنى عليه قوله مبينا تلقون إعلاما بأن الإسرار إلى أحد بما فيه نفعه لا يكون إلا توددا: تسرون أي توجدون إسرار جميع ما يدل على مناصحتهم والتودد إليهم، وأشار إلى بعدهم عنهم بقوله: إليهم إبلاغا في التوبيخ بالإشارة إلى أنهم يتجشمون في ذلك مستفتين إبلاغ الأخبار التي يريد النبي صلى الله عليه وسلم وهو المؤيد بالوحي كتمها عنهم على وجه الإسرار خوف الافتضاح والإبلاغ إلى المكان البعيد بالمودة أي بسببها أو بسبب الإعلام بأخبار يراد بها أو يلزم منها المودة.
ولما كان المراد بالإسرار الستر على من يكره ذلك، قال مبكتا لمن يفعله: وأنا أي والحال أني أعلم أي من كل أحد من نفس الفاعل بما أخفيتم أي من ذلك وما أعلنتم فأي فائدة لإسراركم إن كنتم تعلمون أني عالم به، وإن كنتم تتوهمون أني لا أعلمه فهي القاصمة.
ولما كان التقدير بما هدى إليه العاطف: فمن فعل منكم فقد ظن [ ص: 489 ] أني لا أعلم الغيب أو فعل ما يقتضي ظن ذلك، عطف عليه [قوله]: ومن يفعله أي يوجد الاتخاذ سرا أو علنا أو يوجد الإسرار بالمودة فالإعلان أولى في وقت من الأوقات ماض أو حال أو استقبال. ولما كان المحب قد يفعل بسبب الإدلال ما يستحق به التبكيت، فإذا بكت ظن أن ذلك ليس على حقيقته لأن محبته لا يضرها شيء، وكان قد ستر المعايب بأن أخرج الكلام مخرج العموم، صرح بأن هذا العتاب مراد به الإحباب فقال: منكم وحقق الأمر وقربه بقوله: فقد ضل أي عمي ومال وأخطأ سواء السبيل أي قويم الطريق الواسع الموسع إلى القصد قويمه وعدله، وسبب نزول هذه الآية روي من وجوه كثيرة فبعضه في الصحيح عن ومنه في الطبراني عن علي ومنه في التفاسير أنس سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز لفتح مكة فسألها ما أقدمها، فقالت: ذهب موالي وقد احتجت حاجة شديدة، وكنتم الأهل والعشيرة والموالي، فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وبني المطلب فأعطوها وكسوها وحملوها، فكتب معها حليف حاطب بن أبي بلتعة بني أسد بن عبد العزى "من إلى أهل حاطب بن أبي بلتعة مكة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم" فخذوا حذركم، فأعطاها عشرة [ ص: 490 ] دنانير، فنزل جبريل عليه السلام بالخبر فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر وعليا وعمارا والزبير وطلحة والمقداد وأبا مرثد وكانوا كلهم فرسانا فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب من إلى المشركين، فخذوه منها وخلوا سبيلها، وإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها. فانطلقوا تعادي بهم خيلهم، فأدركوها في ذلك المكان فأنكرت وحلفت بالله، ففتشوها فلم يجدوه فهموا بالرجوع، فقال حاطب رضي الله عنه: ما كذبنا ولا كذبنا، وسل سيفه فقال: أخرجي الكتاب أو لألقين الثياب ولأضربن عنقك، فقالت: على أن لا تردوني. ثم أخرجته من عقاصها قد لفت عليه شعرها، فخلوا سبيلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم علي هل تعرف الكتاب ، قال: نعم، قال: فما حملك على هذا؟ قال: لا تعجل يا رسول الله، والله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششت منذ نصحتك ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله لحاطب: بمكة من يدفع الله به عن عشيرته، وكنت غريبا خليفا فيهم، وكان أهلي بين ظهرانيهم فأردت أن أتخذ عندهم يدا يدفع الله بها عن أهلي، وقد علمت أن الله تعالى ينزل بهم بأسه، [ ص: 491 ] وأن كتابي لا يغني عنهم شيئا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق ولا تقولوا له إلا خيرا، فقال رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك يا [عمر] بن الخطاب لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، ففاضت عينا عمر رضي الله عنه وقال: الله ورسوله أعلم، فأنزل الله عمر يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم "
الآيات. أن
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : افتتحت - يعني هذه السورة - وهو المعنى الوارد في قوله خاتمة المجادلة بوصية المؤمنين على ترك موالاة أعدائهم ونهيهم عن ذلك [وأمرهم] بالتبرؤ منهم، لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم إلى آخر السورة، وقد حصل [منها] أن أسنى أحوال أهل الإيمان وأعلى مناصبهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه فوصى عباده في افتتاح الممتحنة بالتنزه عن موالاة الأعداء ووعظهم بقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام والذين معه في تبرئهم من قومهم ومعاداتهم، والاتصال في هذا بين، وكأن سورة الحشر وردت مورد الاعتراض المقصود بها تمهيد الكلام وتنبيه السامع [ ص: 492 ] على ما به تمام الفائدة لما ذكر أن شأن المؤمنين أنهم لا يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا أقرب الناس إليهم، اعترض بتنزيهه عن مرتكباتهم، ثم أتبع ذلك ما عجله لهم من النقمة والنكال، ثم عاد الأمر إلى جملة له، ثم لما كان أول سورة الممتحنة إنما نزل في النهي عن موالاة الأعداء رضي الله عنه وكتابه لكفار قريش حاطب بن أبي بلتعة بمكة، والقصة مشهورة وكفار مكة ليسوا من يهود، وطلبوا المعاداة للجميع واحد، فلهذا فضل بما هو من تمام الإخبار بحال يهود، وحينئذ عاد الكلام إلى الوصية عن نظائرهم من الكفار المعاندين، والتحمت السور الثلاث وكثر في سورة الممتحنة ترداد الوصايا والعهود، وطلب بذلك كله ولهذا المناسبة ذكر فيها الحكم في بيعة النساء وما يشترط عليهن في ذلك، فمبنى السورة على طلب الوفاء افتتاحا واختتاما حسب ما بين في التفسير لينزه المؤمن عن حال من قدم ذكره في سورة الحشر [و]في خاتمة سورة المجادلة - انتهى.