ولما تم الوعظ والتأسية وتطبيب النفوس بالترجئة، وكان وصف الكفار بالإخراج لهم من ديارهم يحتمل أن يكون بالقوة فيعم، ويحتمل أن يكون بالفعل فيخص أهل مكة أو من باشر الأذى الذي تسبب عنه الخروج منهم، بين ذلك بقوله مؤذنا بالإشارة إلى الاقتصاد في الولاية والعداوة كما قال صلى الله عليه وسلم: "أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما. وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما" لا ينهاكم الله أي الذي اختص بالجلال والإكرام عن الذين لم يقاتلوكم أي بالفعل في الدين أي بحيث تكونون مظروفين له ليس شيء من أحوالهم خارجا عنه، [ ص: 508 ] فأخرج ذلك القتال بسبب حق دنيوي لا تعلق له بالدين، وأخرج من لم يقاتل أصلا كخزاعة والنساء، ومن ذلك أهل الذمة بل الإحسان إليهم من محاسن الأخلاق ومعالي الشيم لأنهم جيران.
ولما كان الذين لم يقاتلوا لذلك ربما كانوا قد ساعدوا على الإخراج قال: ولم يخرجوكم وقيد بقوله: من دياركم ولما كان قد وسع لهم سبحانه بالتعميم في إزالة النهي خص بقوله مبدلا من "الدين" : أن أي لا ينهاكم عن أن تبروهم بنوع من أنواع البر الظاهرة فإن ذلك غير صريح في قصد المواددة وتقسطوا أي تعدلوا العدل الذي هو في غاية الاتزان بأن تزيلوا القسط الذي هو الجور، وبين أن المعنى: موصلين لذلك الإقساط إليهم إشارة إلى أن فعل الإقساط ضمن الاتصال، وإلى أن ذلك لا يضرهم وإن تكفلوا الإرسال إليهم من البعد بما أذن لهم فيه فإن ذلك من الرفق والله يحب الرفق في جميع الأمور ويعطي عليه ما لا يعطي على الخرق، ثم علل ذلك بقوله مؤكدا دفعا لظن من يرى أذى الكفار بكل طريق، إن الله أي الذي له الكمال كله يحب أي يفعل فعل المحب مع المقسطين أي الذين يزيلون الجور ويوقعون العدل.