( ومنه ) أي يعني أن الخبر ينقسم قسمين ، تواترا وآحادا ( وهو ) أي التواتر ( لغة تتابع ) شيئين فأكثر ( بمهلة ) أي واحد بعد واحد من الوتر . ومنه قوله سبحانه وتعالى { ومن الخبر ( تواتر ) ثم أرسلنا رسلنا تترى } أصلها وترا أبدلت التاء من الواو . قاله ابن قاضي الجبل . ثم قال : قلت قال الجواليقي : من غلط العامة قولهم : تواترت كتبك إلي . أي اتصلت من غير انقطاع . وإنما التواتر الشيء [ ص: 258 ] بعد الشيء بينهما انقطاع . وهو تفاعل من الوتر ، وهو العود انتهى ( و ) التواتر ( اصطلاحا ) أي في اصطلاح العلماء ( خبر عدد يمتنع معه ) أي مع هذا العدد ( لكثرته ) أي من أجل كثرته ( تواطؤ ) فاعل يمتنع ( على كذب ) متعلق بتواطؤ ( عن محسوس ) متعلق بخبر ، أي بخبر عدد عن محسوس ( أو خبر ) عدد ( عن عدد كذلك ) أي يمتنع معه لكثرته تواطؤ على كذب ( إلى أن ينتهي إلى محسوس ) أي معلوم بإحدى الحواس الخمس . كمشاهدة أو سماع . فقوله : " خبر " جنس يشمل المتواتر وغيره . وبإضافته إلى " عدد " يخرج خبر الواحد . وبقوله " يمتنع معه . . . " إلى آخره : يخرج به خبر عدد لم يتصف ذلك العدد بالوصف المذكور . وخرج بقيد " المحسوس " ما كان عن معلوم بدليل عقلي كإخبار أهل السنة دهريا بحدوث العالم لتجويزه غلطهم في الاعتقاد ( مفيد ) صفة لتواتر ، أي ومن الخبر تواتر مفيد ( للعلم بنفسه ) . فخرج بذلك الخبر الذي صدق المخبرين فيه بسبب القرائن الزائدة على ما لا ينفك عن المتواتر عادة وغيرها ; لأن هذا الخبر مفيد للعلم لا بنفسه ، بل بسبب ما احتف به من القرائن . ثم القرائن المفيدة للعلم قد تكون عادية كالقرائن التي تكون على من يخبر بموت ولده من شق الجيوب والتفجع . وقد تكون عقلية ، كخبر جماعة تقتضي البديهة أو الاستدلال صدقه . وقد تكون حسية كالقرائن التي تكون على من يخبر بعطشه . وكون خبر التواتر مفيدا للعلم هو قول أئمة المسلمين ( و ) العلم ( الحاصل ) بخبر التواتر ( ضروري ) عند أصحابنا والأكثر ، إذ لو كان نظريا لافتقر إلى توسط المقدمتين ، ولما حصل لمن ليس من أهل النظر كالنساء والصبيان ، ولساغ الخلاف فيه عقلا ، كسائر النظريات ، ولأن الضروري ما اضطر العقل إلى التصديق به . وهذا كذلك . وقال وجمع : إنه نظري ; إذ لو كان ضروريا لما افتقر إلى النظر في المقدمتين . وهما اتفاقهم على الإخبار وامتناع تواطئهم على الكذب . فصورة الترتيب ممكنة . أبو الخطاب
رد ذلك بأنه مطرد في كل ضروري . وقال الطوفي في مختصره : والخلاف لفظي ; [ ص: 259 ] إذ مراد الأول بالضروري : ما اضطر العقل إلى تصديقه . والثاني : البديهي الكافي في حصول الجزم به تصور طرفيه . والضروري ينقسم إليهما . فدعوى كل غير دعوى الآخر ، والجزم حاصل على القولين . ثم اعلم أن خبر التواتر لا يولد العلم ، بل ( يقع ) العلم ( عنده ) أي عند خبر التواتر ( بفعل الله تعالى ) عند الفقهاء وغيرهم ، وخالف قوم . لنا على الأول : ما ثبت من الأصول أنه لا موجد إلا الله . وهو بمنزلة إجراء العادة بخلق الولد من المني ، وهو قادر على خلقه بدون ذلك خلافا لمن قال بالتولد . قال المخالف : يمكن أن يخلقه الله ويمكن ضده . قلنا : هو ممكن عقلا وواجب عادة ، واستدل بأنه لو ولد العلم فإما من الأخير وحده ، وهو محال إذ كان يكفي منفردا . أو منه ومن الجملة قبله ، وهو محال أيضا ، لعدم صدور المسبب عن شيئين فصاعدا ، أو لأنها تعدم شيئا فشيئا . والمعدوم لا يؤثر . فقيل : يجوز تأثير الأخير مشروطا بوجود ما قبله وانعدامه أيضا . فهو وارد في إفادته التولد ( وهو ) أي قسم ( لفظي ) وهو ما اشترك عدده في لفظ بعينه . التواتر قسمان
وذلك ( كحديث : { } فإنه قد نقله من الصحابة الجم الغفير . قال من كذب علي ) متعمدا . فليتبوأ مقعده من النار : يصلح أن يكون هذا مثالا للمتواتر من السنة . انتهى . واعلم أن التواتر يكون في القرآن . وقد تقدم أن القراءات السبع متواترة . وتقدم الخلاف في العشر . وأما الإجماع : فالمتواتر فيه كثير . وأما السنة : فالمتواتر فيها قليل ، حتى إن بعضهم نفاه إذا كان لفظيا ، لكن الأكثر على أن الحديث المتقدم من المتواتر اللفظي من السنة . وزاد بعضهم حديث ذكر حوض النبي صلى الله عليه وسلم . فإن ابن الصلاح في كتاب البعث والنشور : أورد روايته عن أزيد من ثلاثين صحابيا . وأفرده البيهقي المقدسي بالجمع . قال : وحديثه متواتر بالنقل . وحديث الشفاعة . قال القاضي عياض : بلغ التواتر ، وحديث المسح على الخفين . قال القاضي عياض : رواه نحو أربعين صحابيا واستفاض وتواتر . وأما التواتر المعنوي من السنة ، وهو بأن يتواتر معنى [ ص: 260 ] في ضمن ألفاظ مختلفة ، ولو كان المعنى المشترك فيه بطريق اللزوم فكثير ( و ) قسم ( معنوي ، وهو تغاير الألفاظ مع الاشتراك في معنى كلي ) ولو بطريق اللزوم كما تقدم . وذلك ( كحديث الحوض ، وسخاء ابن عبد البر حاتم ) وشجاعة رضي الله عنه وغيرها . وذلك إذا كثرت الأخبار في الوقائع واختلف فيها ، لكن كل واحد منها يشتمل على معنى مشترك بينها بجهة التضمن أو الالتزام ، حصل العلم بالقدر المشترك ، وهو مثلا الشجاعة أو الكرم ونحو ذلك ، ويسمى المتواتر من جهة المعنى وذلك كوقائع علي حاتم فيما يحكى من عطاياه من فرس وإبل وعين وثوب ونحوها .
فإنها تتضمن جوده فيعلم ، وإن لم يعلم شيء من تلك القضايا بعينه ، وكقضايا رضي الله عنه في حروبه من أنه هزم في علي خيبر كذا وفعل في أحد كذا ، إلى غير ذلك . فإنه يدل بالالتزام على شجاعته . وقد تواتر ذلك منه ، وإن كان شيء من تلك الجزئيات لم يبلغ درجة القطع عند أصحابنا والمحققين ( ويعلم ) حصول العدد ( إذا حصل العلم ) عنده ( ولا دور ) إذ حصول العلم معلول الأخبار ودليله . كالشبع والري معلول المشبع والمروي ودليلهما ، وإن لم يعلم ابتداء القدر الكافي منهما . وما ذكر من التقديرات تحكم لا دليل عليه . نعم لو أمكن الوقوف على حقيقة اللحظة التي يحصل لنا العلم بالمخبر عنه فيها أمكن معرفة أقل عدد يحصل العلم بخبره ، لكن ذلك متعذر ; إذ الظن يتزايد بتزايد المخبرين تزايدا خفيا تدريجيا . كتزايد النبات وعقل الصبي ونمو بدنه ، ونور الصبح وحركة الفيء فلا يدرك . قال ( ولا ينحصر ) التواتر ( في عدد ) ابن قاضي الجبل ، فإن قيل : ؟ قلنا : كما يعلم أن الخبز مشبع ، والماء مرو ، وإن جهلنا عدده . انتهى كيف نعلم العلم بالتواتر مع الجهل بأقل عدده