فصل [ على تحريم الحيل أبو هريرة ] : فهذا تمام الكلام على المقام الأول ، وهو عدم دلالة الحديث على الحيل الربوية بوجه من الوجوه . دلالة حديث
وأما المقام الثاني - وهو دلالته على تحريمها وفسادها - فلأنه صلى الله عليه وسلم نهاه أن يشتري الصاع بالصاعين ، ومن المعلوم أن الصفة التي في الحيل مقصودة يرتفع سعره لأجلها ، والعاقل لا يخرج صاعين ويأخذ صاعا إلا لتميز ما يأخذه بصفة ، أو لغرض له في المأخوذ ليس في المبذول ، والشارع حكيم لا يمنع المكلف مما هو مصلحة له ويحتاج إليه إلا لتضمنه أو لاستلزامه مفسدة أرجح من تلك المصلحة ، وقد خفيت هذه المفسدة على كثير من الناس حتى قال بعض المتأخرين : لا يتبين لي ما وجه تحريم ربا الفضل والحكمة فيه ، وقد تقدم أن هذا من أعظم حكمة الشريعة ومراعاة مصالح الخلق ، وأن الربا نوعان :
" ربا نسيئة ، وتحريمه تحريم المقاصد ، وربا فضل ، وتحريمه تحريم الذرائع والوسائل ، فإن النفوس متى ذاقت الربح فيه عاجلا تسورت منه إلى الربح الآجل ، فسدت عليها بالذريعة وحمي جانب الحمى ، وأي حكمة وحكم أحسن من ذلك ؟ وإذا كان كذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم منع من أخذ مد بمدين لئلا يقع في الربا ، ومعلوم أنه لو جوز له ذلك بحيلة لم يكن في منعه من بيع مدين بمد فائدة أصلا ، بل كان بيعه كذلك أسهل وأقل مفسدة من توسط الحيلة الباردة التي لا تغني من المفسدة شيئا ، وقد نبه على هذا بقوله في الحديث : { بلالا } فنهاه عن الفعل ، والنهي يقتضي المنع بحيلة أو غير حيلة ; لأن المنهي عنه لا بد أن يشتمل على مفسدة لأجلها ينهى عنه ، وتلك المفسدة لا تزول بالتحيل عليها ، بل تزيد ، وأشار إلى المنع بقوله : { لا تفعل أوه عين الربا } فدل على أن المنع إنما كان لوجود حقيقة الربا وعينه ، وأنه لا تأثير للصورة المجردة مع قيام الحقيقة ; فلا يهمل قوله : { أوه عين الربا } فتحت هذه اللفظة ما يشير إلى أن الاعتبار بالحقائق ، وأنها هي التي عليها المعول ، وهي محل التحليل والتحريم ، والله تعالى لا ينظر إلى صورها وعباراتها التي يكسوها إياها العبد ، وإنما ينظر إلى حقائقها وذواتها ، والله الموفق . عين الربا